الحمد لله والصلاة والسلام عـلى رسـول الله، وعـلى آله وصحبه ومـن والاه وبعـد:
فـيقـول الله تبارك وتعالى:(لقـد كان لسبأ في مسكنهـم آية جـنتـان عـن يمين وشـمال كلـوا من رزق ربـكـم وأشـكـروا له بلـدة طيبة ورب غـفـور) (سـبأ ـ 15).
هـذه قـصة مـن قـصص القـرآن الكـريـم وهـي قـصة أهـل مملكـة سـباء ، وما كان مـن أمـرهـم ، وقـد جعـلهـم الله آية في العـمـران والحضارة، كما جعـلهـم آية في الكـفـر والخـراب والـدمار فغـدوا بذلك مضـرب المثـل في الـدنيا ، ولهـذه القـصة عـلاقة بقـصـة سـيـدنا سـليمان بن داود عـليهـما السلام.
فالله تعالى جـعـل القـصتين متقابلتـين مـوازنة بين مـن أعـطاهـم الله تعالى مـلكا لـم يعـطه أحـدا مـن بعـدهـم ، وهـم آل داود ، فأعـطى الـنبي داود فـضـلا كـبيرا ، فـجعـل الطــير والجـبال تـؤب مـعـه أثـناء قـراءته للـزبـور، وكان له صـوت مطـرب مما جـعـل الطـير يـرجـع مـعـه ، وألان له الحـديـد يصـنـع به الـدروع السابـغـات، ثـم أعـطى ابنه سـليمان بن داود ذلك الملك العـظـيـم، وسـخـر له الـريـح تجـري بأمـره رخـاء حـيث أصـاب وسـخـر لـه الشـياطـين يعـمـلـون له مـا يشـاء مـن محـاريـب وتماثـيـل وجـفـان كالجـوابي وقــدور راسـيات ، وكل بنـاء وغـواص.
وسـخـر له الجـن والإنس والطـير ، وأسـال له عـين القـطـر ، وحـقا إنه ملك لـم يـؤت ولـن يـؤتى أحـد مـثله مـن بعـده ، مـع العـلم والـرسالة والنبـوية وليـس هـنالك وصـف أعـظـم مـن قـوله تعالى عـلى لسان سـليمان (عـليه السلام):(وهـب لي مـلكا لا ينبغـي لأحـد مـن بعـدي إنـك أنت الـوهـاب ) ( ص ـ 35) ، فـقـابـل آل داود هـذا الملك العـظـيـم بالشكـر، والاعــتـراف بفـضـل الله ، لـذلك خـتمت قـصتهـمـا بقـوله تعالى:(اعـملـوا آل داود شـكـرا وقـلـيـل من عـبادي الشكـور) (سـبأ ـ 13).
بينما قـوم سـباء الـذين أنعـم الله تعالى عـليهـم بـذلك الـمـلك العـظـيم، ورغـم كل تـلك النعـم التي أنعـم الله بهـا عـلى أهـل مملكـة سـبـأ ، ولـكـنهـم طـغـوا وبغـوا وتكـبروا وتجـبروا وطـلـبـوا الـزيادة فأعـرضـوا عـن تقـييـد تـلك النعـم بالشـكـر، قال الله تعالى : ( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) (سـبأ ـ 16/17).
إنها سـنـة الله في خـلقـه، مـا يـبـدل القـول لـديـه وما هـو بـظـلام للعـبـيـد، فـتـلك بيـوتهـم خـاوية بما ظـلمـوا، وتلك آثـارهـم تـدل عـليهـم،فـلما أبطـرتهـم النعـمـة، ظـلمـوا أنـفـسـهـم فـتمـنـوا عـلى الله الأمـاني، قال الله تعالى:(فـقالـوا ربـنـا بـاعـد بـين أسـفـارنا فـظـلـمـوا أنفـسهـم فـجـعـلناهـم أحـاديث ومـزقـناهـم كل ممـزق، إن في ذلك لآيات لـكل صـبار شكـور) (سـبأ ـ 19).
فجـازاهـم الله تعالى بـدل العـمـران والـراحـة والـرفـاهـية الخـراب والـدمار، ولـذلك خـتم الله قـصـتهـم بقـوله:(ذلك جـزيناهـم بما كـفــروا وهـل نـجازي إلا الـكـفـور) (سـبأ ـ 17)، وما ظـلمهـم الله ولـكـن كانـوا أنفـسهـم يظـلمـون قال الله تعالى:(وتلك القـرى أهـلكـناهـم لما ظـلمـوا وجـعـلـنا لمهـلكهـم مـوعـدا) (الكهـف ـ59).
ولأن جـاءت هـذه الآية في وسـط القـصة ذلك لأن القـرآن الكـريـم لـيس عـلى نمط كـتـب التاريخ في سـرد الحـوادث يبـدأ مـن أول القـصة ، ويتـبع حـوادثها متسلسلة وإنما للقـرآن الكـريـم طـريـقـته الخاصة ونمطـه الفـريـد في عـرض الحـوادث ، فـقـد يـبـدأ مـن أول القـصة ، وقـد يـبـدأ مـن الـوسـط أو مـن آخـرها لأنه يقـصـد مـواطـن العـبرة ، وقـد يـذكـر شـيئا في سـورة مـا لم يـذكـره في غــيرها مـن السـور ، أو يـتـرك شـيئا قـد ذكـره في سـورة مـن السـور وقـدم وأخـر كما هـو الشـأن في قـصة سـبأ هـنا ، فـبعـد أن ذكـر خـراب سـد مـأرب وما وقـع لمملكة أهـل سـبأ عـاد إلى قـصتهـم مـرة أخـرى فـقال:(وجـعـلنا بينهـم وبين القـرى التي باركـنا فـيها قـرى ظـاهـرة وقـدرنا فـيها السـير، سـيروا فـيهـا لـيالي وأيـامـا آمنـين) (سـبأ ـ 18)، وكان مـن المفـروض بحـسـب التسلسل التاريخـي أن يبـدأ بهـذا ولكـن لـذلك الأسـلـوب روعـته ومـوقـعـه وهـيبته، حـتى يـجــد المـرء نـفـسه في مـوطـن العـبرة يعـيشها ويتـفـاعـل مـعـها ، فـتـكـون أجـدى وأنـفـع وأوقـع للنفـس.
فـمن هـم قـوم سـبأ؟
قـوم سـبأ قـوم كـثـيرون ، وقـبيلة سـبأ قـبيلـة كـبيرة، لا يعـلم عـددهـم إلا الله، سـموا باسـم جـدهـم سـبأ بن يشـجـب بن يعـرب بن قـحـطـان، ومن المعـلـوم أن القـبائـل العـربية عـادة ما تسمى بأسـماء أجـدادها الأولـين، فـمثـلا: ربيـعـة ومضـر رجـلان، وربيـعـة هـو جـد مـن أجـداد قـبيلة ربيـعـة ، وكـذلك مضـر جـد لـكل مـن ينتسـب إلى قـبيلة مضـر، وكـذا سـبأ هـو جـد القـوم الـذين عـمـروا اليمـن ، جـنـوبا وشـمالا بما فـيها صـنعـاء وعـدن ، وهـو اليـمـن المشهـور إلى اليـوم (وسـبأ أرض باليـمـن مـدينتها مـأرب وبينها وبـين صنعـاء مسـيرة ثـلاثة أيام ، سـميت بهـذا الاسـم ، لأنها كانت مـنازل ولـد سـبأ بن يشـجـب بن يعـرب بن قـحـطان) (معـجم البلـدان للحمـوي ـ جـ 5 ، ص23).
قال تعالى:(لقـد كان لسـبأ في مـسكنهـم آيـة) رد الله الضـمير إلى سـبأ بالجـمع مما يـدل عـلى أن سـبأ ليس اسـما لمـوطـن، إنما هـو اسـم لأولـئـك القـوم المنحـدرين مـن هـذا الجـد (سـبـأ) الـذي سـموا باسـمه ، لـقـد كان لأولـئـك القـوم في مـساكنهـم آية، تـلك هـي الـروعـة التي تـؤثـر في نفـس السامـع، وكانت لسبأ في المضارب التي يقـطـنونها ومـواطـنهـم التي يسـكـنـونها آية.
والآية هـي المعـجـزة، والشئ الخـارق للـعـادة، مما يتجـاوز غـالبا ما يتخـيـله البشـر ويقـدرونه، كما قال النبي هـود عـليه السـلام لقـومه : (أتبـنـون بـكل ريـع آية تعـبثـون) (الشـعـراء ـ 128)، بمعـنى: (تبـنـون قـصورا شـامخـة عـالية نادرة المثال).
ثـم إن الله تعالى أخـبرنا بالخـبر المجـرد فـقال : ( لقـد كان لسباء في مسكـنهـم آية ) ثـم بعـد ذلك يأتي الشـرح فـقال:(جـنتـان عـن يمـين وشـمال)، والجـنة معـروفة، وهـي البـستان الـذي فـيه مخـتـلـف الأشـجـار بحـث تجـن مـن يـدخـل إلـيها ، والمـراد هـنا أن الجـنتين ليستا صـغـيرتين فـيهـما عـدد محـدود مـن الأشـجـار، وهـذا ما يـدل عـليه قـوله تعالى:(عـن يمـين وشـمال)، فـما المقـصود عـن يـمـين وشـمال؟.
قالـوا عـن يمـين وشـمال وادي اليمـن ، واليمـن هـي البـلاد التي عـمـرت مـن تـاريـــخ العـصـور الأولى مـن أولاد آدم الأولـين ، الـذين شـادوا فـيها الأبنية وغـرسـوا فـيها الأشـجـار، وهي بـلاد طـيبة كـما سـيأتي وصـفها ، ووادي اليـمن طـوله مـئات الكـيـلـو مـترات ، وله روافـد تصـب فـيه ، وعـلى ضـفـتيه عـن اليـمـن والشمـال أنـشـئـت تـلك القـرى وتـلك الجـنات التي فـيها كل أنـواع الأشـجـار والثـمار0
قال تعالى:(كـلـوا مـن رزق ربـكـم واشـكـروا له)، كلـوا مـن هــذا الـزرق وهـــذه الخـيرات النادرة المـثـال ، ويكـفي التعـبير عـنها بأنها آية ، واشـكـروا ربكـم ، واعـرفـوا فـضـل المنـعـم الـذي أنعـم عـليكـم بهـذه الجـنات وهـذه المـياه الجـارية وبما سـيـذكـره بعـد هـذا يأتي القـطـع الرائع في قـوله تعالى:(بـلـدة طـيبة ورب غـفـور) لم يصـف الله تعالى مـكانا مـثـل هـذا الـوصف في القـرآن الكـريـم ، وإنه لـوصـف رائـع فـعـلا يشـد القـلـوب إليه شــدا.
هـناك مـن يقـرأ:(واشـكـروا له بـلـدة طـيبة) وهـذا لا يصح وإنما يجـب الـوقـوف في قـوله تعالى:(واشـكروا له )ثـم لخص هـذه النعـم كلها في قـوله:(بـلـدة طـيبة ورب غـفـور) طـيـبة في كل شـيء، المناخ طـيب والماء طـيب والنبات طـيب والهـواء طـيب وبقـدر ما بالـغ العـلماء في وصـف تـلك الطـيـبة فـيمـكـن أن يـكـون أكـثر باعـتبار أن الـوصـف بالطـيب كان مـن قـبـل الله تعالى وليـس مـن كـلام مـؤرخ زار أمـاكـن سـبأ قال لـنـا : إنها بـلــدة طـيـبة.
وقال العـلماء مـن طـيبها أنها لا تـدخـلها عـقـرب ولا حـية ولا ثـعـبان ، ولا ذباب ولا بـق ولا بـرغـوث ، فهـواؤها نـقي خـال مـن كل الجـراثـيـم الضارة ، وأرضها خـالية مـن الهـوام السامة0
ويقـول الـرواة: إذا أقـبـل مسافـر مـن بعـيـد وكانت فـيه أو في ثـيابه قـملة فإنها تمـوت بمجـرد أن يـدخـل تـلك البـلاد، فهـي إذن : بـلاد جـمـعـت طـيـب الأرض ، وطـيـب الـمـاء ، وطـيب الهـواء ، وزيـادة عـلى ذلك كله: (رب غـفـور).
.. وللحـديث بقـية إن شـاء الله في الاسبوع القادم.

ناصر بن محمد الزيدي