إن الله تعالى جعل الآخرة دار الجزاء وجعل الدنيا دار العمل والاكتساب وليس العمل في الدنيا مقصورا على العمل الديني بل العمل يشمل العمل للاثنين معا الدنيوي والأخروي فالدنيا مزرعة للآخرة وموصلة إليها قال تعالى:(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) (القصص ـ 77).
والناس ثلاثة رجل شغله معاشه عن معاده فهو من المفرطين الهالكين ورجل شغله معاده عن معاشه فهو من المغالين ورجل شغله معاشه لمعاده فهو من المقتصدين المحبوبين عن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعا ، فان الدنيا بلاغ إلى الآخرة ، ولا تكونوا كلاًّ على الناس) "كنز العمال".
فالرسول (صلى الله عليه وسلم) يطلب من المسلم أن يعمل لدنياه ولأخرته جميعا من غير إفراط ولا تفريط في حق أحدهما والمسلم الكامل هو الذي ينظم وقته ويقسمه بين العمل للدنيا والآخرة ويعطي كلا منها نصيبه في اعتدال والعمل للدنيا يتحقق بالسعي للرزق والعمل للكسب والقيام بما يحفظ للجسم قوته وصحته ويجعله قادرا على العمل والكسب وأداء الفرائض التي افترضها الله علينا ومن عمل الدنيا التمتع بالطيبات من الرزق في المأكل والمشرب والملبس وهي حلال للمسلم مادام ذلك وفقا لما أخبرنا به الشرع الحكيم فإذا كان الأكل من اللحم، ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإن ذلك من المحرمات التي نهى الله تبارك وتعالى عنها قال تعالى:(قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) (الأنعام ـ 145)، وإن كان الشراب من الخمر ، فذلك محرما لا شك ولا ريب (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) (المائدة ـ 90)، وعمل الدنيا واجب على كل مسلم لنفع الناس وتعمير الأرض التي جعله الله فيها خليفة وجعل رسالته أن يعمرها، أما عمل الآخرة فيتمثل في صدق الإيمان وطهارة الروح وصفائها ونظافة القلوب من الحقد والتمسك بالفضائل ومراقبة الله تعالى في السر والعلن وأداء الفرائض التي أوجبها الله تعالى عليه في إحسان وسبيل ذلك أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك هذا هو الجانب الإيجابي أما الجانب السلبي فهو كف الأذى والبعد عن منكرات الأقوال والأفعال وإن الدنيا مزرعة للآخرة يستطيع الإنسان أن يقدم فيها من الخير ما يثاب عله في الآخرة ويبلغه رضا الله تعالى في مستقر رحمته فكل أعمال الإنسان الأخروية السابقة تجعله ينال ثواب الله تعالى وكذا الأعمال الدنيوية إذا قصد بها وجه الله تعالى.
ولقد وجهت الشريعة الإسلامية أفرادها إلى العم وحثتهم على التكسب وطلب الرزق وبينت لهم أن الكسب باليد خير ما يجمع وهو سبيل أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام وحذرت أشد التحذير من الاعتماد على التسول واستجداء الناس والتذلل لهم لما يورثه من المذلة والمهانة في الدنيا والآخرة فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله:(والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره فيأتي به فيبيعه فيأكل منه ويتصدق منه خير له من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه) أخرجه البخاري وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم) "أخرجه مسلم".
ولقد ورد في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة أمثلة كثيرة تمجد العمل الشريف الذي يزاوله الفرد ليكسب منه ويصون ماء وجهه من ذل السؤال وتبرز في قيمته وأثره في حياة الناس وتصف آيات القرآن الكريم بأن أنبياء الله ورسله اشتغلوا بالحرف الشريفة فمنهم من عمل حدادا ومنهم من عمل نجارا ومنهم من عمل برعي الغنم ومنهم من عمل بالتجارة وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم فقال أصحابه وأنت فقال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) "صحيح البخاري". وإن كان بعض المهن التي اشتغل بها الأنبياء من المهن الشاقة إلا أن ذلك لم يشغلهم عن مهنتهم الأساسية وهي الدعوة إلى الله الواحد القهار فقد أراد الله لهم أن يكسبوا قوتهم بعرق جبينهم، ولم يطلب المولى جل وعلا من عباده ترك العمل والتفرغ للعبادة المطلقة بينما يقوم على إنفاقه غيره فقد جاء في الأثر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) وجد رجلا جالسا في المسجد يعبد الله فقال من يعول قال أخي قال:(أخوك أعبد منك) فقط جاء الأمر من الله تعالى للمؤمنين بترك البيع والشراء والتجارة ساعة أداء العبادة المفروضة عليهم وذم من يشتغل بالتكسب في ذلك الوقت وأذن لهم بالانتشار وطلب الرزق بعد أدائها قال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) (الجمعة ـ 9).
ولقد وعد الله تعالى المؤمنين العاملين الذين يجتهدون لكسب عيشهم بالجزاء الأوفى يوم القيامة فضلا عما يكسبون في الدنيا من نعمة وستر (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنت تعملون) فالشرط للحصول على هذا الأجر الرباني أن تصحب دائما النية الصالحة وتحتسب ما تلقى من عناء ومشقة عنده تعالى وتصبر على ما تلقى من تعب في طريف الوفاء بعملك وتتحلى بالإخلاص في أدائه.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم ..

أنس فرج محمد فرج