[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/abdellatifmhna.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عبد اللطيف مهنا[/author]
تشي يوميات المواجهة الراهنة بين الغرب والاتحاد الروسي على الساحة الأوكرانية بأن إدارة الروس لمعركتهم حتى الآن لا تعدم الكثير من الدهاء وغير القليل من الحنكة، واللذين لا يجافيهما حزم يستند إلى رؤية واضحة لمدى مصيريتها، وبالتالي الاعتماد المسبق لما تتطلبه من خطة ترتقي لمستواها.
هم، أولًا، لا يمتلكون ترف إغفال مدى استشراء الجنوح التوسعي الغربي المزمن، المتمثل في التوق الأطلسي البائن للتمدد شرقًا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، ويستشعرون في راهنهم مدى تحكُّم روح الحرب الباردة الضاربة جذورًا في العقلية الغربية، وما زالوا يعيشون ذات الهواجس التي أيقظتها فيهم فتائل "الثورات البرتقالية" الموجَّهة، أو مسبقة الصنع، التي أُشعلت بين ظهراني مداهم الحيوي ودواخل حدائقهم السوفيتية السابقة، وعليه، فهم يتحسبون بأن أية خسارة لهم في الساحة الأوكرانية ستكون بمثابة الخطوة باتجاه انتقال هذه المواجهة للداخل الروسي عينه... وهذا وحده كافٍ لأن يخلع عليها سمة المصيرية بالنسبة إليهم.
وتاليًا، لا تغب عن فطنتهم في لجة مثل هذه المواجهة مسألتان، أولاهما: أن الغرب في حقبة الأفول الأميركي، وأتون أزماته الاقتصادية المستفحلة، وتهيبه الناجم عن حدود قدراته في شن حروبه في ظلهما، يفضِّل حسم معركته معهم من خلال استدراجهم إلى نوع من الورطة الأوكرانية، عبر دفعهم إلى نوع من التدخل المباشر، الأمر الذي يذكِّرهم بسابقتهم السوفيتية الأفغانية... وهم هنا على ما يبدو لا ينظرون لتحركات الناتو في كل من بولندا ورومانيا ودول البلطيق والبحر الأسود أكثر من كونها لا تتجاوز الطابع الردعي، فى المدى القريب على الأقل، وإجمالًا، لعلها واحدة من مستلزمات ردود الفعل المستوجبة، كما وأنها لا تتناقض مع متطلبات إدارة الأحبولة الأوكرانية الغربية المراد إيقاعهم في شركها... لعل فيما قد سبق ما يفسِّر لنا السر فيما بدا من المرونة الدبلوماسية وكل هذا الصبر والحذر الذي اتسمت به المواقف الروسية المعلنة، المرافقة لمعالجتهم لما يجري في الشرق والجنوب الأوكراني المتمرد على سلطات كييف والخارج عليها، أو عدم اللجوء حتى الآن إلى المثال الذي سبق وأن كان منهم في حالة القرم.
وثانيهما: عدم إغفال الروس لحسابات موازين القوى الراهنة بينهم وبين الغرب، رغم إدراكهم لمستجد التحولات التي غشت أحوال خصومهم وسبقت إشارتنا إليها، إلى جانب أخذهم في الحسبان هشاشة واقعهم الاقتصادي، وأنهم عمومًا لم يغادروا بعد حدود حالة الاستنهاض وبدايات محاولات استعادة غابر الدور الكوني المفتقد إثر الكبوة السوفيتية، أي كل ما يستوجب منهم التحسب لمحاذير ما يستدرجهم الغرب إليه. أما ما يتعلق بالعقوبات التي لا يمل الغرب من التلويح بسوطها فهم لا يأخذونها مأخذ الجد، لا سيما وهم يسمعون ويشاهدون بادي عدم التوافق بين الأطراف الغربية على مداها أو على جديتها، أو هذه الاختلافات غير المكتومة حول مستواها، خصوصًا وأن ملك أيديهم، أي الروس، ورقة الطاقة المهمة والمؤثرة، ولذا فهم لا يكفون عن التلويح لخصومهم بإشهار سلاح الغاز، مدركين مدى فعاليته في انتفاء توافقهم والحؤول دون جدية وخطورة هذه العقوبات التي يجري تهديدهم أو ابتزازهم بها.
لما سبق، ولأن الروس ليسوا في حاجة أصلًا ولا مضطرين لتدخل مباشر في أوكرانيا، ونرجِّح أنهم لن يفعلوا، يستلون سلاح المعارضة الشعبية الفاعل ويكتفون به حتى الآن في شرق وجنوب أوكرانيا الموالين لهم، أو رفع شعار "حقوق الأقاليم"، لإرباك كييف، وشلها سياسيًّا، وإضعاف سلطتها المركزية، واستنزاف قدراتها العسكرية والأمنية، وإحداث الانشقاقات في صفوف جيشها، أو كل ما هو حاصل ويحصل الآن هناك ومن شأنه أن يعيق أطلستها أو يحول دونه... وإذ ما من كلفة في مثل هذا بالنسبة لهم، فإن اعتماده يمنحهم فرصة ثمينة في إمكانية توسيع هامش المناورة، إن سياسيًّا أو عسكريًّا، ويمكنهم من متابعة مراقبتهم الميدانية المستمرة للتطورات الجارية والتصرف وفقما تقتضيه اتجاهاتها ومآلاتها... لذا فإن ما جرى أو سيجري في كل من مقاطعتي دانتيسك ولوجانسك، على سبيل المثال، لا يبدو عشوائيًّا، وإنما ينطلق من خلال ما يتبدى أنه الخطط المدروسة التي تنفذ بثقة وأناة وتدرُّج وحزم، أو هو أنموذج عملي لمثل هذا الخيار الروسي الفاعل... استفتاء شعبي بأغلبية كاسحة مع الانفصال عن أوكرانيا والالتحاق بالاتحاد الروسي. جمهوريات شعبية مفتوحة الحدود مع روسيا، مساحتها تعادل مساحة بريطانيا، تتدارس الوحدة فيما بينها وتطالب بها مع روسيا، وفي نفس الوقت تعلن جاهزيتها للانخراط في مفاوضات مع السلطة الراهنة في كييف حول الأزمة، في حين تؤيد موسكو خارطة الطريق التي اقترحتها منظمة التعاون والأمن الأوروبية وتبدي كييف تحفظها على بعض تفاصيلها... هذه الخارطة التي إن هي فشلت، وكذا سواها من مبادرات لحلول شبيهة قد تلحق للحفاظ على شكل ما لوحدة أوكرانيا الصعبة، فإن ذلك البلد مصيره التجزئة لا محالة، مع إمكانية أن يحوله الروس من جانبهم إلى عكس ما يريده الغربيون، أي ساحة استنزاف للأطلسي وليس للاتحاد الروسي. أما إن نجحت الحلول في نهاية المطاف وبقيت أوكرانيا المنقسمة تاريخيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا موَّحدة، فهي لن تكون في مثل هذه الحالة إلا فيدرالية ومحايدة وفق المثال الفنلندي الذي يرتضيه الروس.