لوحة اليوم سنذهب بمضمونها بعيداً حيث العوالم المجهولة والآفاق التي تسكب للروح مزاجا آخر وفي قالبها يُعاد الإعتبار لحركة اليد واللون الناجمة عن الجهد الذهني الخلاق بتمازجه مع الذات والطواف حول عالم غريب مليء بالإنفجارات اللونية الزاهية والإنفعالات التلقائية ، لإنها تستمد رمزيتها من حلم عميق أو إغماضة عين في لحظة سكون ، سنحلق اليوم في فضاءات عمل من سلسلة تجارب الفنان التشكيلي محمد عبدالكريم الزدجالي هذا الفنان الشاب الذي يسعى دائماً لتقديم خصوصيته الفكرية الممزوجة بعالمية الجهد التقني كما يسعى في أعماله إلى خلق جدلية شكلية ذات ثراء لوني وبصري بين الرموز التي يبصرها الرائي للمشاهدات الحية أو من عالم الأحلام ، ثم يصوغها بدلالات صافية وناصعة ، تنساب إلى النفس في مزاوجة تتصل في نهاية حلقتها مع الإنطباع والتعبير الذي ترسله المشاعر والأحاسيس لمثل هذه الأعمال الفنية.
وفي تمعنٍ قريب من العمل الماثل أمامنا تبرز إلى أذهاننا صورة لا نكاد نراها إلا في مسارات العوالم المجهولة والسفر الطويل إلى نقطة ما ، للوصول إلى شيء ما ، مسار تحفه نورانيات وترددات تلمع وتزدان بخيالات الألوان التي تصحبك في مسار رحلتك البعيدة إلى مقصدك ، وعند تأملي الطويل لهذا العمل أجد أنني قد سافرت في مثل هذا العالم في وقت ما من وداعة نفسي وصفاء روحي وإغماضة عيني وزفتني معها نفس بريق الألوان والهالات الضبابية التي تحيط بمسار رحلتي تلك من كل جانب ، وأحسب أن هناك الكثير من الحالمين سافروا عبر هذا الممر الفلكي المزدان بالجماليات أثناء ذهابهم إلى ما يتمنون الوصول إليه ، وقد تكون حالة من حالات إرتداد الذات إلى دهاليز النفس السحيقة والغوص في قعرها والتفتيش عن شيء طُمر في بئرها بالكثير من الحالات النفسية والهواجس الإنسانية التي تتردد في أرواحنا فرحاً وألماً بين الحين والآخر ، كما أنني قد أُشبه هذا اللفيف من اللمسات اللونية المتنوعة الحالمة والبؤرة السيادية في مركز العمل بأنها قد تكون أيضاً هي ذاتها التي رأيناها في أرحام أمهاتنا ، أو رآها عياناً رواد الفضاء المسافرين بعيداً إلى كبد السماء وعايشوها بحواسهم كلها وهم متجهون إلى مقصدهم ، أو قد نراها فيما بعد عند سفر أرواحنا إلى بارئها وتحليقها إلى فضاءات قد تكون شبيهة بهذا العالم الذي صوره لنا هذا الفنان عبر لوحته المليئة بالتداعيات الفكرية والبصرية.
عموماَ فإن حالة الفنان لحظة الإنتاج لا يمكن التنبؤ بها ، إلا أن دورنا كمتلقين يكمن في ربط الرموز والمشاهدات التي يرسلها العمل إلى عالمنا الخاص ، وكل واحد يراها وفق أحاسيسه ومشاعره وإرهاصاته الداخلية الدفينة ، ويبقى الفنان هو المبدع الأول الذي يُحرك مشاعرنا ويغذي حواسنا ويفجر ذاكرتنا ، ويجول بالنفس تجوالا حميما مع ديمومتها وحركتها الدؤوب وقلقها الوجداني العميق إلى غرف تشع الأضواء في أرجائها وفيها أطياف من بقايا جمال.

عبدالكريم الميمني
[email protected]