فُجِعَتْ الساحة الأدبية بخبر وفاة الشاعر الخلوق محمد بن مصبح المقبالي، الذي رحل فجر يوم السبت الموافق ١٠ مايو من هذا العام، في حادثة أوجعت كل من خبَرَها. وقد كتب الشعراء ومنهم أصدقاء الراحل على صفحات (الفيس بوك والتويتر) تعازيهم ونعيهم الصادق لِفقْد زميلهم وأخيهم. ولعمري فقد كان الراحل صاحب روح محبّة وقلب عطوف وتجربة شعرية بدأت ملامحها بالتشكّل الفريد- بالنسبة لي- منذ مشاركته الأولى في مسابقة الملتقى الأدبي الأخير بخصب..

المقبالي من قريب

تعرَّفت على الراحل في مسابقة الملتقى الأدبي بخصب بواسطة قصيدته التي شارك بها. أتذكّر حلقة العمل التي تشرَّفت بتقديمها في الملتقى وكانت تخصُّ النصوص المشاركة في المسابقة، حيث كان المقبالي جالسا في الصف الأول، مركِّزا في الحديث ومتحمسا للنقد والملحوظات التي تقال والنقاش الجاد الذي أثاره الحضور خلال الورشة. بعد الورشة جاءني فرِحا باشَّا وكأنَّه الغيم الماطر، جاء ليخبرني عن سعادته بهذه المشاركة وقناعته التامة بإن النقد هو الطريق الصحيح للوصول إلى أرض الشعر الخصبة، الغنّاء.. لمستُ من حواره الآسر حُبَّهُ للشعر وتواضعه أمام النقد. أيقنت أن محمدا سيبقى في الصف الأول دائماً، إن كان مستمعا أم متحدثا أم ملقيا لقصائده.. وهذا ما تأكد لي بعد أن علمت بأنه معلم فاضل.. فليس بغريب على المعلم أن يكون متقدما دائما، وبمشيئة من الخالق الحكيم كان متقدما حتى في الرحيل.

رحلة في جنة الشعر..

تُعتَبَر مواقع التواصل الاجتماعي هي العوالم التي يميل إليها أغلب الشعراء الشباب لنشر كتاباتهم تواصلا مع القراء، غير أن المتابع للصفحة الشخصية للشاعر محمد المقبالي سيلاحظ ندرة كتاباته في هذه المواقع، فآخر قصيدة نشرها في صفحته كانت بتاريخ ٢٦ نوفمبر ٢٠١٣ وهي نفس القصيدة التي شارك بها في ملتقى خصب، وقد قدّمها بعبارة جميلة جاء فيها" عندما يكون للشمس معنى آخر"، وهي قصيدة إنسانية تتحدث عن يوميات إنسان في المشفى؛ كيف يقضي المريض يومه كاملا بين الجدران البيض والأسرة الباردة والأدوية المُزكِمة، كيف يحنُّ إلى غرفته في المنزل، كيف يشتاق إلى عائلته وحياته الطبيعية خارج المشفى، هي قصيدة لروح الإنسان في أيما مكان وزمان.. ومن ضمن أبيات القصيدة :

على ضي الشمس تتوافد احزانه
مثل قطعان خيل ٍ في الْوغى تجري
ينادي بصوته المخنوق اخوانه
أنا ويني؟ ووين وسادتي؟ وعطري؟
كآبه تملأ المشفى، وبيبانه
تعلّق في مقابضها أمل عمري
تهب ريح الأسى من لون حيطانه
تبعثرني على أي الطرق مدري

هكذا هو الشاعر الحقيقي، مرتبط بروح الإنسان، بوجعه ومآسيه، يستمد أفكاره من عاطفة الحزن على إنسان آخر.. إنسان موجوع ومتشظ، يعيش الحياة ببطء، ربما هو لا يعرفه غير أنّه يزفر الأمل ويشهق الوهم معه، هكذا كانت روح شاعرنا الراحل. روح حالمة وقلب طيّب..

الثقافة الدينية في شخصية الشاعر الراحل

نعود لصفحة فقيدنا العزيز في (الفيس بوك) لنقراء بتاريخ ٥ سبتمبر عام ٢٠١٣ بيتين جميلين، يرتفع فيهما الحسّ الديني ويرتقي السماء، حيث يصبح الشعر غيمة تمطر الحب والإيمان العميق:

ضايق ومحبط والمواجع نوافير
والحزن في صدرك طيوره تغرّد
إسْتَغْفر الله في صباح التباشير
وصلّي على خير البريّه محمد

إن الثقافة الدينية التي تضىء شخصية الفقيد نجدها برّاقة في قصائده كذلك، ولعلَّ ما نشره على صفحته بتاريخ ١٥ فبراير عام ٢٠١٣ موضحا رأيه في احتفال البعض بيوم " عيد الحب" يوضّح للمتابع بشكلٍ جلِّي اهتمامات الشاعر وكذلك قناعاته وأفكاره الدينية الراسخة. يقول الراحل حول هذه المناسبة:

عموما أنا جيت يا سائلي وين
وإللي سأل عنّي ولا هان قدره
سمعت بأن الأمس عيد الشياطين
قلت ابتعد مدامه العيد بكره
العيد يومٍ عند كل الْمسلمين
(جُمعه) وفيها كل خير ومسرّه
حنَّا تربيناعلى عاده ودين
وعيد الحبايب ما لنا فيه خبره

لقد كان لشاعرنا رؤيته الخاصة حول الأشياء، وهو يعبّر عن هذه الرؤية بواسطة القصيدة. قصيدة الذاكرة والحلم.. ينتقل من البحر إلى الجبل إلى الصحراء بالكلمة وما تثيره من عاطفة وفكر.. وكم كنت محظوظا بأن بعث لي الراحل قصيدة ًيسألني رأيي حولها، وقد كتبت له بصدق وتجرَّد وقناعة تامة هذا الرد"بصراحة القصيدة مختلفة عن كتاباتك السابقة .. بداية مرحلة شعرية حالمة. إستمر برسم الصور الجميلة .. الشعر قوامه الصورة والعاطفة" .. لم أكن مجاملا له، فالحق أن القصيدة ابهرتني وابهجتني.. وسأختم رسالتي بها، فلا حديث بعد الشعر الجميل.. رحم الله شاعرنا وألهم أهله الصبر والسلوان..

الليالي نار والذكرى حطب
والدروب أشواك وعيونك سراب
والضلوع العوج تتجمَّر كذب
مع رحيلك باتت أنقاض وخراب
كم بذرتك طيب في صدري وحُب
وما حصدتك غير أعذار وعذاب
وكم سكبتي فراقنا ف كأسك نخب
ولا سقيتك غير أفراحي شراب
جيت لك آمال عفَّرها التعب
ما استراحت في سكيك الاغتراب
جيت لك نبع الغلا و أنت المصب
وعتزيتك يا(...........) ويبلعني الجواب
ذكرياتك احتسي ف ليله تهب
ريح ود وشوق فاضت به الشعاب
افرش الرمله ... مصابيحي الشهب
وأقطف النجمات واتْلحَّف سحاب
وانفث الاحزان في صدر السحب
واغرس القمرا على وادي الضباب
امتلأ قلبي من غيابك عتب
لين هذي العين فاضت بالعتاب
ليه رحتي؟ شبت أنفاسي لهب
ما صدح في داخلك طير الإياب
ليه رحتي؟ الوضع دونك صعب
والعمر ممحل أراضينه يباب
ليه رحتي؟ تكاثرت آخر درب
غربةٍ تتلبَّس أقدامي ثياب
وين رحتي؟ طارت أحلامي سُرب
من غصون الصدر لكفوف الغياب
والغياب المر في صدري يصب
من ينابيعه نواافير اكتئاب
هزي صدري تسقط أوجاعي قلب
باع دمه ولا كسب غير التراب....

صلاة الشعر

يموت الإنسان ولا يموت الشاعر. يتوقف النبض ولا تنام الروح؛ فالموت والفناء للجسد والبقاء والخلود للروح. كلنا سنموت ذات لحظة خاطفة، غير أن الروح هي من تتجلّى وتخلد، تحلِّق في فضاء الكون المترامي، تغوص في محيط الحلم البعيد.. فلا موت بعد توقف الزمن ولا حياة بعد تلاشي المكان..!!

حمد الخروصي
twitter: @hamed_alkharusi