الشيخ الدكتور مبارك بن مسلم الشعبني
خلد الله سبحانه وتعالى حادثة الفيل كونها تحمل مكرمة – حماية البيت - تمهيدا لمكرمة أكبر، ألا وهي مكرمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومكرمة نزول القرآن الكريم بعد ذلك، فقد أخبرت السير أن حادثة الفيل كانت في العام الذي ولد فيه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ولكأن الله سبحانه هيأ المنزل بحدث جليل إكراما للنازل الضيف الجليل، محمد صلى الله عليه وسلم. فجلالة الحدث كان إيذانا بجلالة ما سيحدث.
وفي السورة أيضاً درس بأهمية أخذ العبر والدروس فيما يحدث هنا وهناك من أحداث؛ فهي- أي الأحداث- لا محالة تزيد يقين المرء، وتقوي إيمانه، بشرط أن يربط القدرات بالله سبحانه وحكمته في خلقه، بحيث يعتقد أن في كلٍ حكمة، تعلم تلكم الحكمة أو لم تعلم، ومن أهم تلكم الحكم بيان وإظهار قدرة الله سبحانه، والتي باستقرارها في النفس يخاف المرء ربه ويرجوه. فخطاب الله لرسوله،- وهو خطاب لكل من يقرأ القرآن الكريم- في قوله (ألم تر)، والتي جاءت بمعنى ألم تعلم، وهو سؤال تقريري لا استفهامي، فيها لفت نظر للتأمل، وأخذ الفائدة مما حدث، وقد يحدث في أي مكان، وفي أي وقت.
كما إن السورة الكريمة فيها مزيد بشارة للرسول صلى الله عليه وسلم في أنه مربىً بعين الله؛ وما عليه إلا أن يقوم بالواجب الذي عليه من تبليغ الدين، والحفظ مكفول له من الله، ولذلك جاءت اللفظة ﴿.. رَبُّكَ ..﴾، في إشارة أن من يربِّك قادر على حمايتك كما حما بيته من قبل، ومن يكيد لك كيدا سوف يرد كيده عليه، وقد كان الأمر كما قال سبحانه لنبيه في قابل الأيام والسنين، إذ رد الله كيدهم كلما هموا بأمر ضده والدعوة، يقول سبحانه في قواعد عامة بذلك، و كسنة ماضية من الله مع رسوله وحمايته ونصره: ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) ﴾ سورة الأنفال الآية (18)، وقوله سبحانه: ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) ﴾ سورة الطور الآية(42)، وفي قوله سبحانه: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) ﴾ سورة الطارق، الآيتان (15، 16).
وكذلك فإن في السورة ما يمكن قوله أيضا تحدٍ وإعجاز رباني من الله سبحانه في نبيه؛ فالله سبحانه كما قد تحداهم في الإتيان بشيء من القرآن، هذه السورة تتحداهم بفعل ما يضر النبي ضررا دائما، وتحديدا القتل، أو الحد من الدعوة إلى الله، ولذلك لم يعدّ الله سبحانه ما ضروه به خلال مسيرته معهم أن يكون أذى وأذى فقط، أي ضرر عابر لا يلبث أن يزول، يقول سبحانه في ضرر الكافرين بالرسول وصحبه: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى .. (111) ﴾ سورة آل عمران الآية (111). فالبرغم من تكالب قوى الكفر عليه في مكة وما جاورها من المشركين، وفي المدينة من اليهود وغيرهم إلا أنهم لم ينالوا ما أرادوه، وكل ذلك بقدرته سبحانه ومعيته له سبحانه، وكل ذلك يستخلص من وصف الله نفسه لنبيه في لفظة ﴿.. رَبُّكَ ..﴾ دونما سواها من الصفات، فهي من ديمومة التربية واستمراريتها له سبحانه، ومن ربوبيته وملكه له الدائم، وحق من يعلن أن ربه الله سبحانه أن يحفظه ويرعاه ويربه الربوبية التي أخبر بها. خاصة وأن لا مرب للرسول صلى الله عليه إلّاه سبحانه وتعالى. فقد كان يتميا منذ صغره صلى الله عليه وسلم. وكان الله له كما أخبره في قوله: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) ﴾ سورة الطور الآية(48). وقوله ممتنا عليه ومذكرا إياه بنعمه عليه: ﴿.. أَلَمْ يَجِدْكَ َتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى(8)﴾ سورة الضحى (6-8)، وقوله سبحانه: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) ﴾ سورة الشرح (1-4).
وكما تشير السورة ايضاً اليقين على قدرة الله سبحانه في الذب عن حرماته، لا يعفي المؤمن به أخذه بأسباب ما شاء أن تكون أسبابا في الحماية والدفاع كعبادة لله في أخذها أيضا؛ وفي ذلك فتح لمجال التشرف في الدفاع عن حياض الإسلام، فالبرغم من تكفل الله بحماية نبيه كما أسلفنا أعلاه ألا أنه كان لا ينفك يأخذ بأسباب الأمن والسلامة، بل وتشرف الصحابة في التحلق حوله دفاعا عنه وصونا له من أي مكروه حتى لأنهم جعلوا أنفسهم دروعا وتروسا، كذلك وبالرغم من تكفل الله بحفظ كتابه ألا أن الباب مفتوحا لكل من يريد التشرف في أن يكون سببا في الحفظ، كحفظه وطباعته وتعليمه وتفسيره وغيره من وسائل التشرف في حفظ كتاب الله سبحانه، وكذلك الحال في الدفاع عن البيت الحرام لا يعني تركه لمن يريد أن يعبث به سوءا، ويقول المؤمن أن الأمر بيد الله سبحانه، وإن للبيت ربا سيحميه، فقد شاء الله أن يفتح – إن صح التعبير- باب التشرف بحمايته لمن يريد حمايته، ولذلك شرع الذب والحماية عن مقدسات الإسلام، لأن الله سبحانه قد تعبد المؤمن بعمل ذلك، وهو سبحانه عليه العون والسداد والتوفيق والنصر بشرط أن يبدأ المرء متوكلا على الله لا متواكلا، ومن هنا يفهم السبب في عدم إقصاء الله سبحانه كيد من هدم الكعبة في القرون الأولى للإسلام- كما يقول الشيخ الشعراوي-، فقد هدمت وإعيد بناؤها من جديد، دون أن يأتي طير أبابيل أو تتدخل قدرة الله مباشرة في حمايته، والسبب هو أن التدخل قد حدث عندما لم يشرع الذب عن حرمات الله، ولم يكن هناك من أسلم وجهه لله التسليم المطلق بحيث يستميت في سبيل الله من أجل الدفاع عن المقدسات والمشاعر ورموزها، أما وأن الله قد أوكل أناسا عاهدوا الله بالقيام بما يأمر، مستمدين عونهم منه سبحانه فإن النتيجة تكون وفق العمل. هذا إن كان هدمها قد كان بينة الكيد للإسلام- كما هي نية إبرهة وجنده-، أما وإن كان هدمها بنية أخرى إصلاحية فهذا أمر آخر لا محالة.