في يوم الإثنين الموافق الخامس من شهر مايو 2014م ، وحين دخولي مكتبي فإن أول ما وقعت عليه عيني هو غلاف العدد الأول لمجلة (القانون والحياة) ، إذ كان عليه صورة سعاد اللمكية (أول مستشارة قانونية عٌمانية). منذ سنين وأنا أمارس طقس القراءة بشغف لا أحسب له دقائق ولا ساعات ، لكن في هذه المرة كان الشعور مختلفًا. حملت المجلة بين يدي وأنا أمسح بعيني مفردات عميقة معنى وقليلة عددًا ، حيث المساحة الكتابية عجزت عن احتواء بقية التفاصيل من حياة سعاد اللمكية ، وبإحساس يملؤه الفخر والدفء قرأت تلك السطور عن شقيقة أمي ؛ خالتي سعاد وكأنني أكتشفها للمرة الأولى رغم أنني أراها مع نهاية كل أسبوع ، تمعنت صورتها بـ ( الأبيض والأسود ) برداء التخرج عام 1962م في جامعة ترنيتي كوليدج الشهيرة (Trinity College) ، أعرق جامعات إيرلندا في دراسة القانون.. استوقفتني تلك العيون بنظرتها الممتلئة اصرارًا وعزيمة ، ملامح الوجه الجادة والمعبرة عن معرفة الهدف والمراد تحديدًا ، ذات العيون والملامح التي تذكرني بأمي وبقية خالاتي وأخوالي ، مررت بمقتطفات السيرة ؛ طفولة منضبطة وحازمة في التربية ، مؤسسة على قاعدة دينية ( ختم القرآن )، وتعليم بأرقى المدارس ؛ مدارس خاصة باهظة التكاليف مدرسة القديس جوزيف (St. Joseph Convent School ) بزنجبار ، ثم المدرسة الأميركية بغمرة في القاهرة American School) ) ثم المدرسة المسماة بكلية الإسكندرية Alexandria College بإيرلندا ، تذكرتُ جدي الشيخ : محمد بن ناصر اللمكي ، ترحمت عليه كما لم أترحم عليه من قبل ، استرجعت كلماته لي : " لم أكن أغنى أغنياء زنجبار لكن كان لديَّ خطة لتعليم أولادي وبناتي حتى وإن كلفتني بعد ثورة 1964م أن أرهن كل ما أملك، ولو كان آخر قطعة فضة ببيتي ".
إن الكلمات عن سيرة خالتي سعاد أيقظت مخيلتي لأراها وكأنها في شريط سينمائي طالبة تواجه الصعاب في سنوات الغربة والدراسة ، استرجعت بذاكرتي تعبها وهي تربي طفليها ( آسية وناصر ) بمفردها منذ أن كانا طفلين ، حيث كانت الأم والأب معًا يا له من دور عسير ، مات الأب الشيخ المرحوم : عبدلله بن مسعود الريامي وآسية وناصر في مرحلة المراهقة الصعبة ، والآن خالتي تجني ثمار تعبها؛ آسية ماجستير في الجيولوجيا (أخصائية نظم معلومات جغرافية بوزارة البلديات الإقليمية وموارد المياه )، وناصر ماجستير في القانون ( مساعد المُدّعي العام ، مدير عام الادعاء العام لمحافظة شمال الباطنة ) وقافلة التحقق والنجاح لا زالت مستمرة مع جيل الأحفاد والحفيدات .
قرأت مقتطفات السيرة وكأنني أتعرف عليها للمرة الأولى رغم ومعرفتي بتفاصيلها مسبقًا ، لكن وقع القراءة على النفس غير الحكي والسمع ، في لحظات القراءة هذه عشت لحظة سابقة لولادتي ولوجودي ، حيث رأيت خالتي تتحرك أمامي طالبة جميلة في عنفوان شبابها جادة في دراستها الجامعية مفعمة بالحيوية، شخصية قيادية تترأس اتحاد الطلاب المسلمين والعرب وطلاب شرق إفريقيا ، تخيلتها وهي أم وامرأة ناضجة ونشطة تتنقل بخطى ثابتة عبر وظائف مرموقة ، رأيتها وهي تثبت ذاتها لكونها أول الموظفات بالدائرة القانونية بوزارة المالية بزنجبار ، سمعت كلماتها وهي تُدرس القانون التجاري في كلية الاقتصاد انتدابًا ، رأيتها وهي المدير العام للإدارة المعنية بتسجيل وقائع الأحوال المدنية والحيوية ( الأحوال الشخصية ) ، وأكاد أشعر ملمس ردائها وهي ثاني امرأة تتبوأ منصب القضاء في دار السلام بتنزانيا ، وأتلمس خطاها وهي ضمن أُوليات النساء العاملات بقسم التوظيف بشركة تنمية نفط عُمان بالسلطنة، هذه هي خالتي المرأة العُمانية غير المسبوقة في مجال العقود بشركة أبوظبي الوطنية ( أدنوك ) وهي المنتدبة في الوقت ذاته لشركة ( زادكو ) بالإمارة ذاتها ، وأول امرأة عُمانية تتبوأ منصب المستشار القانوني " مستشار أول (أ) " بوزارة الشؤون القانونية ، بعد أن كان المنصب لا يشغله سوى الأجانب.
رحلة طويلة من الكفاح في مشوار الحياة والعمل بدأتها خالتي منذ عام 1962م وحتى 2011م حيث تقاعدها عن العمل ، رحلة أكدتها خطى ثابتة لا خوف من المخاطر، ولا تردد في مواجهة المصاعب، الرحلة في صداها أيقظت مخيلتي لأسترجع ماضيا قريبا حيث كُرمت والدتي شريفة بنت محمد بن ناصر اللمكي في فبراير 2010م بمسقط ، من قِبَل إدارة الجامعة الأميركية بالقاهرة ، بوصف والدتي أول خريجة عُمانية لهذه الجامعة ( 1951-1955م) ولمسيرتها الدراسية والعملية ونشاطها أثناء سنوات الدراسة . ذلك التكريم الذي أعقبه احتفاء كافة وسائل الإعلام بها ، نقش بداخلي لحظة لا تنسى ، فعقب إلقاء والدتي كلمة شكرها وتقديرها لهذا التكريم ، ووسط جموع الطالبات والطلاب العٌمانيين من خريجي الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وقفتُ لأقبل رأسها ويدها حبًا وإجلالاً وتقديرًا وأخذت بيدها عائدة بها للجلوس، أحسست في تلك اللحظة وكأنني أكتشف أمي للمرة الأولى رغم حياتي معها عبر سنوات عمري، الإحساس ذاته انتابني عبر تصفحي الكلمات عن خالتي التي أعرفها جيدًا لكن القراءة عنها أمر آخر، قفز إلى ذهني كلمات معالي الدكتورة: راوية البوسعيدية ( وزيرة التعليم العالي ) وواحدة من أفراد العائلة ، حين دونت في مقدمة كتاب" مذكرات رجل عُماني من زنجبار" لوالدها السيد: سعود بن أحمد حقيقة مفادها أنها أقبلتْ على قراءة مذكرات والدها بشغف ودهشة شديدين ، لاكتشافها أننا " وخلال تدرجنا في مراحل النمو ننظر إلى والدينا بإعجاب ونعتمد عليهما ، ولكننا لا نعرف عنهما سوى القليل كأفراد مستقلين ، أو شخصيات منفصلة عنا . وإنه من الصعب أن نتخيل لهما وجودًا قبل أن يكونا والدينا " ، صدقت يا معالي الوزيرة، فخالتي سعاد الكائنة في قلبي وفكري من زمن ، اليوم فقط أتخيل لها وجودًا سابقًا لوجودي ، بل وأراها بمخيلتي في أطر مختلفة .
عبر قراءتي لكلمات خالتي تحسستُ قبضة يدي فتذكرت آخر رحلاتي إلى زنجبار في أبريل 2014م ، إحساس ملمس سطح الطاولة الخشبية الكبيرة في بيت جدتي لا زال بين يدي ، طاولة المذاكرة تلك التي مسحتها بيدّيْ ، تعود إلى قرن من الزمان أو ربما أكثر، صمدتْ بكل ثقلها ورفضتْ أن تكون ضحية النهب الذي نال كل أثاث البيت الكبير، وكأنها شاهد عيان على تاريخ العلم في هذا البيت. جلست على الطاولة استرجع تاريخ عائلتي تخيلت جدتي الراحلة: آسية بنت عبدلله الخروصي التي أحمل اسمها، تلك العظيمة، الحنونة ، الصارمة التي أبيتُ لها أن يندثر تاريخها ، فتكبدتُ مشاق ترميم بيتها . تخيلتكم جميعًا يا خالتي أنت وأمي وبقية خالاتي وأخوالي في أرجاء البيت ، تخيلتكم وأنتم ملتفون حول طاولة المذاكرة تؤدون الواجبات المدرسية في مدرسة منزلية ، مديرتها جدتي وناظرها جدي. لم تفشل تلك المدرسة قط في تخريج أساتذة ودكاترة كبار: ناصر ولمك وحارث وعبدلله وزكية وعلي ونيفين ، لم تفشل أبدًا في تنويع تخصصات بناتها وابنائها بشهادات جامعية عليا حملتها : سعاد وشريفة و ثريا وجانيتو ونائفة وأحمد وبركات ، حتى القلة منكم مَنْ عجز عن إكمال دراسته الجامعية لظرف مرض أو لآخر مثل : تماضر وبثينة وسعيد وزهير ونواف ، استطاع أن يثبت لذاته ولأبنائه النجاح حياة وعملاً.
وضعتٌ المجلة جانبًا لأفيق من تداعيات الماضي إلى آنية الحاضر ؛ صورة تهنئة كبيرة تملأ صفحة الجريدة بالألوان ، ولاية بأكملها تهنئ ابنها على نيله درجة الدكتوراه ، يا له من شعور جميل وفريد أن تحتفي ولايتك ويهنئك أُناسك بلحظة نجاحك ، أيقظتني الصفحة على مفارقة غريبة لم انتبه إليها من قبل ، لم أسمع ولا أتذكر مرة واحدة أن عائلتي الكبيرة عددًا والمتماسكة وجدانيًا !! احتفت بأي منا لنيله هذه الدرجة ، رغم تنوع اختصاصات الدرجة وكثرتها وتواصلها حتى الجيل الرابع من العائلة !!! تُرى يا خالتي يا مستشارة القانون ، أظلم هذا لذواتنا أم عدل منها ؟ مع تحياتي أيتها الحبيبة.

د. آسية البوعلي مستشار العلوم الثقافية بمجلس البحث العلمي