[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” .. كان الزعيم بورقيبة ربما عن حسن نية يؤمن بأن التقدم له وصفة جاهزة تصلح لكل زمان ومكان و كان هذا خطؤه الأكبر في التقييم والتقدير. فحدثت مصادمات بينه وبين شيوخ الزيتونة حين هاجم بورقيبة ركنا من أركان الإسلام وهو صوم رمضان كما قاوم الحجاب بشراسة”
أثار أحد نواب المجلس التأسيسي التونسي الأسبوع الماضي قضية رسالة المرأة في المجتمع واستعمل بعض العبارات غير المهذبة بعد أن شتمه خصومه أيضا بعبارات من نفس الصنف لكنه في الحقيقة ورغم سوء الدفاع عن قضيته أثار معضلة الهوية في بلادنا وضياع النخبة التونسية بين تطرفين: تطرف رافض للعصر بدعوى جاهلية العصر وتطرف أخطر منه رافض للفضيلة بدعوى أن الدين ظلامية وتخلف. وبين هؤلاء وأولئك تكمن حقائق التاريخ المتمثلة في هندسة تونس الوراثية ومحاولة فك ألغازها وخفاياها. وهنا من المفيد أن أشير إلى كتاب المفكر الفرنسي (ألان مينك ) الذي صدر في باريس عن دار (جراسيه للنشر) في أغسطس 2012 بعنوان (روح الأمم) وهو كتاب قيم لأنه يطرح نظرية أحسبها جديدة ومفصلية حيث يؤكد بالتحليل التاريخي والجغرافي والسوسيولوجي والأنثروبولوجي أن لكل أمة جينات وهندسة وراثية تميزها وتحدد سلوكياتها وتشرح ردود أفعالها تماما كالبشر. وبالطبع فالمفكر يحلل الأمم الأوروبية والأمركية والروسية لكنه لا يهتم بالعرب وجيناتهم. فتونس لو حاولت هنا تطبيق نظرية (ألان مينك) على هندستها الوراثية في تاريخها الحديث نجد أن الجيوش الفرنسية احتلتها سنة 1881 بينما كانت مملكة تنعم بالاستقرار والأمن على مدى قرون رغم المحن التي لم تنج منها أية أمة حتى أن الفرنسيين لما غزوها واحتلوها اكتشفوا أن مدننا كانت تنعم بالإضاءة البلدية لشوارعها و أن الشوارع مرصوفة وأسواقنا خاضعة لرقابة أمناء السوق من حيث الجودة والأسعار وملاحقة الغش وتقنين التجارة وأن مستشفياتنا مفتوحة تستقبل بطواقمها الطبية مرضانا وتعالجهم بل اكتشفوا بأن لدينا مارستان منذ العهد الأغلبي لمعالجة المصابين بالأمراض العقلية والنفسية في حين كان أغلب الأوروبيين يحرقون هؤلاء المرضى بدعوى تمكن الجن والشياطين من أرواحهم أو في أحسن الحالات ينبذونهم ويقيدونهم بلسلاسل واكتشف المحتلون أن لدينا مدرسة عليا للهندسة المدنية والصناعات الحربية بضاحية باردو ويديرها المصلح محمود قابادو ولدينا المدرسة الصادقية للتعليم العصري أنشأها ملك تونس الصادق باي بل حتى جمعيات أهلية لتعليم الموسيقى وصيانة تراث الفنون مثل الجمعية الرشيدية نسبة للأمير رشيد باي والحياة الفكرية تعج بالفقهاء والمصلحين مثل الوزيرخير الدين باشا صاحب كتاب (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) وقد تولى بعد خروجه من تونس منصب الصدر الأعظم لدى السلطان العثماني في اسطمبول وكذلك العالم المؤرخ ابن أبي الضياف صاحب كتاب (إتحاف أهل الزمان في أخبار ملوك تونس وعهد الأمان) ولدى تونس أعرق الجامعات العربية وهي جامعة الزيتونة. أما المستعمر الذي يتفوق عسكريا فحسب فأعلن أننا أمة بائسة متخلفة ونعتنا بأننا برابرة "بمعنى المتوحش لا بمعنى العرق البربري الأمازيغي الأصيل" وبأن الاستعمار جاء ليلحقنا بالمدنية ويعلمنا دينه ولغته ويكسونا لباسه ويفرض علينا قوانينه إلى أن بدأت تتشكل طلائع المقاومة التحريرية منذ 1911 على أيدي الزيتونيين " أي خريجي جامعة الزيتونة " ثم في العشرينيات إلتحق بهم شباب تخرج في جامعات فرنسا وأولهم الحبيب بورقيبة فأثار في النفوس رغبة التمسك بالهوية ورفض الانصهار في الذات الفرنسية ومقاومة الذوبان في الجسم الاستعماري ونشأ الكفاح التحريري مراوحا بين المقاومة المسلحة والمقاومة الفكرية إلى أن استقلت تونس سنة 1956 و أصبحت دولة ذات مقومات ومؤسسات.
وهنا وفي هذه المحطة التاريخية الأساسية طرحت النخبة التونسية مشكلة الهوية والدين واللغة أي في الحقيقة مشكلة استعادة المخزون الحضاري لتونس العربية المسلمة بعد تحريرها من الاستعمار التنصيري ومحاولات مسخ ذاتها القومية والوطنية. فإذا بالزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان أثناء مرحلة الكفاح يستعمل براهين الهوية لحشد الجماهير يلتف على أقدس تلك المقومات الحضارية بدعوى الانتصار في معركة الخروج من التخلف ووهم اللحاق بركب الحضارة كما كان يسميه هو نفسه، فالحضارة في نظره هي حكر على الحداثة الغربية وبالطبع حين تبناها بورقيبة وحاول تقليدها فاعتمدها لكن بتصرف أي دون الأخذ بالديمقراطية ودون احترام حقوق الإنسان ودون تطبيق أبسط شروط تلك الحداثة الغربية التي هي الفصل بين السلطات الثلاث " التنفيذية والتشريعية و القضائية ". وهي المكاسب الحقيقية للثورة الفرنسية أم النهضة الأوروبية الحديثة. فولد لدينا مسخ اجتماعي وثقافي مشوه لأنه قلد فرنسا والغرب في المظهر و لم يقلدها في القيم العميقة التي أنتجت تفوقها.
فكان الزعيم بورقيبة ربما عن حسن نية يؤمن بأن التقدم له وصفة جاهزة تصلح لكل زمان ومكان و كان هذا خطؤه الأكبر في التقييم والتقدير. فحدثت مصادمات بينه وبين شيوخ الزيتونة حين هاجم بورقيبة ركنا من أركان الإسلام وهو صوم رمضان كما قاوم الحجاب بشراسة بعد أن كان كتب افتتاحية جريدة العمل لسان حزبه سنة 1932 بعنوان "الحجاب" يدعو فيه نساء تونس للتمسك بحجابهن للحفاظ على الروح القومية وعدم الاندماج في منظومة الاستعمار (كان هذا منطقه وكانت تلك براهينه أثناء معركة التحرير) ثم توج كل هذا بالدفع إلى سن قوانين الأحوال الشخصية التي انفردت بها تونس وحدها في العالم العربي والإسلامي (مع الاستثناء التركي الأتاتركي) فتولت هذه القوانين هندسة المجتمع التونسي والعلاقات بين أفراد الأسرة وتقليص منزلة رب البيت على أسس وقواعد ونظريات دخيلة علينا ولا تعترف لا بالقوامة ولا حتى بالفطرة التي أودعها الله سبحانه في كل من الرجل والمرأة من أجل بناء الخلية الأساسية للمجتمع وهي الأسرة. ومنذ سنة 1992 تاريخ زواج الرئيس السابق زين العابدين بن علي بزوجته الثانية ليلى الطرابلسي تمت إضافات ديماجوجية لهذا القانون من أجل استرضاء اليسار العلماني المحلي وضمان مساندة الدول الغربية ومجتمعاتها المدنية للنظام القائم بالظهور أمام الغرب في مظهر المدافع عن المرأة و المعتنق للعلمانية والحداثة. وبالرغم من أن القانون الأصلي "قانون 13 أغسطس 1956" كان يهدف إلى صيانة الأسرة بواسطة ضمان حقوق المرأة فإن القانون في بعض فصوله الراهنة رجح الكفة للمرأة ضد الرجل الذي لم تعد له لا قوامة ولا هو قادر حتى على طلب الطلاق بسبب تعقيد الإجراءات ونصرة القانون للمرأة ظالمة أو مظلومة. إن هذه الزوابع و التوابع التي سببها الاغتراب القانوني تستدعي مراجعة جريئة وموضوعية للقوانين جميعا على ضوء انعكاساتها السلبية فالقوانين ليست أصناما نتعبدها بل هي كائنات حية تتطور و تراجع مع مرور الزمن وتتلاءم مع النسق الحي المتبدل للحياة.