حارث بن سيف حارث الخروصي باحث في الفن الصخري والتاريخ الأثري
[email protected]

هذه الحياة تأخذنا أحيانا الى حيث تريد أو إلى ما نريد وأحياننا الى ما لا نريد.
في أحد عصريات رجل يعمل في شركة أخذتني أقدامي وأقداري الى أحد مكاتب تخليص المعاملات حيث كنت متعودا أن أذهب إليه لتخليص بعض المعاملات.
تأخذ الموظفة الأوراق مني وتقول إن تخليص المعاملة يحتاج الى نصف ساعة بسبب وجود معاملات قبلي، لم أتبرم وكنت أفكر حينها في مكان أقضي فيه النصف ساعة، نعم تذكرت أن هناك محلا للشاي على مقربة من هذا المحل، سأقضي الوقت احتسي الشاهي وأخرج هاتفي لأتصفح التويتر والجدليات في المنطقة والأحداث التي تنتهي ولا تنتهي، ربما هي مضيعة للوقت، ولم أكن أدري أني كنت على موعد مع قدر جميل، قدر يعني لمثلي شيئا كثيرا، وأنا أمشي إذا بي ألاحظ انكسارا في جدار المقبرة، رجل مثلي قد قضى شطرا من حياته متسائلا عن الناس الراحلين يعني له انكسار في جدار المقبرة فرصة للبحث، أقرر الدخول الى المكان مستكشفا وباحثا عن الشخصيات القديمة الذي كتب على شواهدها نبذة عن حياتها، التي سطرت ملامح ورسمت التاريخ ورحلت جسدا ولم ترحل من أسطر المدونات، تبعث تلك الأجداث كلما قلب أحدهم صفحات التاريخ.
ألاحظ أحد الشواهد المصنوعة من حجر الستشست (Schist Stone) الذي ينتشر في أودية الرستاق كان قبرا لفتى صغير تخطفته يد المنون فكتب على شاهده عبارات لم تكتمل، قررت أن أمضي في المقبرة، وخلال تجولي إذا بالأقدار تسوقني الى قبر آخر بدا منعزلا.
أقترب رويدا ربما يكون شاهدا دون كتابات، لا فهذا القبر ليس عاديا، نحت شاهده بطريقة جميلة، اختزلت الألم والحب وكل عناصر المشهد.
إنه عصر اليعاربة وقد آذنت شمسه بالأفول ولم تبق إلا الأفلاج والحصون ومجد تليد يفتخر به كل أبناء الوطن دستورا أبديا للأمجاد، وطويت صفحة من تاريخ عمان، إنه معترك الزمن، أنظر الى الشاهد وقد نحت فيه الزمن ما نحت لم أكن أدرك حتى اللحظة من هي تلك الشخصية التاريخية فقد تكسر الشاهد من أطرافه وغاب الإسم الأول.
مهلا فهنالك شاهد مقابل للشاهد الأساسي، إنه يحمل قصيدة ربما أراد البعض أن تصل الينا، قصيدة لا شك انها تحمل الكثير من معاني المعاناة، أرسلت عبر الزمن على لوح من حجر، نقشت بالدم وبالدموع والألم، بالاحساس الانساني بفلسفات للحياة والموت والخلود.
بدأت الشمس تأفل في الجانب الغربي ويبدو اني قضيت زمنا مبحرا عبر الزمن.
كأن الشمس إذ همت بالأفول حركت في قلبي الكثير من المشاعر وحان الوقت لأن أرجع الى العصر الذي ولدت فيه، الى مكتب تخليص المعاملات وقد قضيت ما يربو على الساعة، المكتب الصغير الذي كان منعطفا في تقديم خدمة جليلة لي بدون قصد وبلا مقابل، أمضي تعانقني الأفكار ويختزل مخيلتي المشهد.
بني القبر على شكل مربع طول ضلعه 3 أمتار تقريبا، بجدار حجري صغير عبارة عن صفين من الأحجار وكان القبر على الجزء الغربي للمربع.
ووضع على القبر شاهدان، شاهد في الشمال من صخور الصلافة الخضراء (Green Slate stone Plate ) نحت عليه ( بسم الله الرحمن الرحيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون،.....
ويبعث من في القبور، قبر المرحوم الولي العادل الرضي إمام المسلمين، مهنا بن سلطان بن مالك بن بلعرب بن سلطان بن ماجد بن مالك بن بلعرب بن سلطان اليعربي العماني ليلة ثمانية عشر من شهر جمادى الأخر سنة اثنين وثلاثين سنة ومائة سنة وألف سنة.
الحمد لله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، كل نفس ذائقة الموت، إنا لله وإنا إليه راجعون (صنعه مبارك بن عبدالله الدلال النزوي) بينما ظهرت في الأسفل توريقة زخرفية حملت بين أوراقها سورة الصمد بطريقة فنية جميلة.
بينما حوى الشاهد الحجري المقابل ( الجنوبي ) قصيدة طويلة نوعا ما حوت 22 بيتا، لكن صغر حجم الخط جعل من الصعب قراءة محتواها.
ويبدو من الشاهدين بانهما من صنع نحاتين مختلفين حيث ان الشاهد الشمالي حوى وضوحا في الخط ورونقا في الكتابة وكأن الكاتب كان يكتب على ورق لا ينحت على حجر، بينما الشاهد الجنوبي كان عمليا أكثر فاستغل كل مساحة اللوح الحجري لكتابة القصيدة الطويلة.
ورد في التاريخ العماني بأن الإمام المهنا حكم من عام (1131-1133 هجري ) الموافق (1719-1721 ميلادي) والحقيقة بأن الشاهد يعطينا الخبر اليقين في تاريخ وفاته وهو (18 جمادى الأخرى 1132 هجرية ) الموافق (27/أبريل/1720) اي أنه تحل ذكرى وفاته الثلاثمئة بعد ثلاث سنوات تحديدا.
ويبدو أن الإمام المهنا اليعربي حاول عمل اصلاحات اقتصادية لكن قيام جناح معارض قوي من أهل الرستاق لحكمه ويرون أحقية سيف بن سلطان بن سيف اليعربي في الحكم الذي كان صبيا حينها، مما جعل العلماء أهل الحل والعقد في صراع مع إرادة الجمهور، ويبدو أن العلماء مع تصاعد الاحتجاجات لجأوا الى محاولة تفريق الناس دون الاستجابة الى مطالبهم فقد خرج الشيخ عدي بن سليمان الذهلي الى جموع المحتجين وقال لهم إن (سيف أمامكم) بفتح الألف ففرح الناس وظنوا أن جمهور العلماء استجابوا إلى مطالبهم الشعبية بينما قام العلماء بإدخال الإمام المهنا الى قلعة الرستاق وقال الشيخ عدي بن سليمان الذهلي أن كان يقصد (سيف أمامكم) بمعنى قدامكم، لكن هذا الموضوع لم ينطل على جموع المحتجين فحرضوا يعرب بن بلعرب بن سلطان اليعربي على الخروج على الإمام المهنا أو ربما استغل اشتعال الإحتجاجات في القيام بعمل عسكري وسياسي وقد احتل يعرب بن سلطان مسقط التي كانت العاصمة الاقتصادية لعمان ولم يستطع واليها دفعه.
ومع اضطرام المشكلة السياسية قامت جموع المحتجين بإعدام الشيخ عدي بن سليمان ميدانيا بينما تم قتل الإمام المهنا بن سلطان بن ماجد (صاحب القبر) في ظروف غامضة ووري الثرى بعيدا عن القلعة بين قبور العامة وكأن قتله كان عبارة عن مؤامرة نفذت سريعا ووري الجثمان سريعا في مكان بعيد.
ولم تنته الاشكاليات السياسية لتلك الفترة المضطربة بمقتل الإمام المهنا بن سلطان اليعربي والشيخ عدي بن سليمان بل تواترت الأحداث المؤسفة وكانت يمكن تفاديها بالحكمة والإستماع الى صوت العقل، لكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
ظل هذا القبر مجهولا لهذه الفترة الطويلة من الزمن قاربت الثلاثة قرون حتى شاءت إرادة الله ان يكشف عن القبر ونقلب بعضا من صفحات التاريخ الانساني بكل جماله ومآسيه وتداعيته، فاليوم هو ابن الأمس وأب للغد، والأحداث تنتجها أحداث وتنتج أحداثا بدورها، ويجب أن يؤخذ من التاريخ الموعظة والحكمة، فالحكمة هي نتاج تراكمات معرفية وتجارب تخوض غمارها المجتمعات وتبني عليها رؤيتها وتصوراتها.