” .. إذا كانت حسابات المكسب والخسارة واضحة تقريبا فيما يتعلق بأطراف الاتفاق، فإن القوى الإقليمية المعنية تبدو وكأنها تدرس بعناية الاتفاق وتبعاته لتحدد موقفها. لكن يمكن أيضا التكهن بمواقف تلك القوى من تصريحاتها السابقة ودلالات سياساتها في الملفات الاقليمية التي تدخل إيران طرفا فاعلا فيها وتتماس مع استراتيجيات القوى الكبرى في المنطقة.”
ـــــــــــــــــــــــــــ
كما كتبنا هنا من قبل، توصلت إيران إلى اتفاق "مرحلي" مع القوى الغربية بشأن برنامجها النووي يقضي بالحد من تخصيب اليورانيوم بما يضمن سلمية البرنامج النووي الإيراني مقابل تخفيف جزئي للعقوبات. ورغم الصراخ الاسرائيلي والفرنسي، لم يختلف الاتفاق النهائي كثيرا عن "الصفقة غير الشاملة" التي كانت عناصرها معروفة منذ أكثر من شهرين، وكل ما تمكن منه الفرنسيون هو تأخير الاتفاق لفترة. ويعزز ذلك من القناعة الأولية بأن الاتفاق انما تم بين إيران والولايات المتحدة بالأساس، وضمن سياسة جديدة تعتمد فيها واشنطن على تسوية قضايا عالمية بالترتيب مع روسيا ـ وربما الصين أيضا. وربما يمكن هنا القول باطمئنان إن نموذج الاتفاق الأميركي الروسي حول أسلحة سوريا الكيماوية كان المثل المحتذى في ترتيب الاتفاق بشأن نووي إيران بشكل أو بآخر.
بغض النظر عن تفاصيل الاتفاق، الذي لا يرقى بعد إلى تسوية كاملة لأزمة إيران مع الغرب والمستمرة منذ الثورة الإسلامية فيها نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وحتى عن تسويق كل طرف له لدى جمهوره فإن هناك إنجازا تم يفتح الباب أمام الصفقة الشاملة المحتملة. ومن الطبيعي أن تتضمن الصفقة الشاملة أطرافا أخرى إلى جانب إيران، وتطول قضايا المنطقة الساخنة كلها من سوريا إلى فلسطين مرورا بالعراق ولبنان والبحرين. لكن الطريق طويلة بالطبع أمام تلك الصفقة الشاملة، وستتطلب جهودا من كافة الأطراف الإقليمية والدولية لتخرج في النهاية بشكل يضمن استمرارها. وهنا يتعين على دول المنطقة، قبل غيرها، أن تقيم حساباتها بسرعة وتبادر الى التصرف بما يحقق مصالحها في إطار اتفاقات حلول الوسط المتوقعة.
وفي إطار التقييم والحسابات، يمكن التفكير الآن في مكاسب وتبعات الاتفاق الأخير للبناء على ذلك في تحديد المواقف والتصرفات. لا شك في أن القوى الغربية كسبت أن حصلت من إيران على تعهد بتوقف الطموح النووي عند سلمية برنامجها دون العمل على تطوير سلاح نووي. ومن بين القوى الغربية، تعد واشنطن الرابح الأكبر إذ يمكن للرئيس الأميركي باراك أوباما أن يفاخر بأن سياساته التفاوضية ـ وبالتنسيق مع الروس والصين وأوروبا ـ أدت إلى نتائج لا تقل عما كانت يمكن أن تؤدي إليه الحروب والتدخلات الاستباقية. كذلك كسب الروس أن عادوا إلى الساحة الدولية كلاعبين للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، وإن أدركوا طبعا أن عالم ثنائية القطبية ولكن لا يزال لهم كدور كقوة كبرى في ظل قيادة أميركية للعالم. أما إيران فكسبت بداية حلحلة لنظام العقوبات، وإن كان أمامها طريق طويل للتخلص منها، بما يمكنها من تفادي شلل تام له تأثيرات داخلية عميقة. بل وربما كسبت إيران ايضا تقديم صورة للعالم تبدو فيها "الدولة" وكأنها استعادت مكانتها مقابل حكم "رجال الدين".
وإذا كانت حسابات المكسب والخسارة واضحة تقريبا فيما يتعلق بأطراف الاتفاق، فإن القوى الإقليمية المعنية تبدو وكأنها تدرس بعناية الاتفاق وتبعاته لتحدد موقفها. لكن يمكن أيضا التكهن بمواقف تلك القوى من تصريحاتها السابقة ودلالات سياساتها في الملفات الاقليمية التي تدخل إيران طرفا فاعلا فيها وتتماس مع استراتيجيات القوى الكبرى في المنطقة. ولربما كانت تركيا البلد الأكثر صعوبة في توقع موقفه، إذ إن الاتفاق الغربي الإيراني يمثل لأنقرة خسارة ومكسب في آن. أما الخسارة فهي أن طرفا إقليميا قويا من الرباعي الرئيسي (إيران، السعودية، تركيا، إسرائيل) بدا في حل مشاكله مع العالم دون "قنوات" تركية أو غيرها. ثم إن التواصل الإيراني الغربي لا شك سيعزز من موقف إيران في الأزمة السورية، وذلك بالضرورة على حساب الدور التركي في تلك الأزمة. أما ما قد يعد مكسبا، فإن عودة إيران إلى التعامل مع الخارج قد تتيح لأنقرة فرصة للتعاون مع طهران وتعزيز هذا المحور للتعامل مع قضايا ساخنة على الحدود التركية، من العراق إلى سوريا.
يبقى الطرف الأهم في كل هذا، وهو دول الخليج التي تتشارك مع إيران جوارا متوترا منذ فترة طويلة. ورغم أن تحليلات سريعة ترى أن اي تقارب إيراني غربي ليس بالضرورة في صالح دول الخليج، فإن مواقف رسمية أعلنت من هذه الدول رحبت بحل أزمة النووي الإيراني كبداية لحل مشاكل إيران مع المنطقة، هذا رغم أن الإمارات لديها جزر محتلة إيرانيا. صحيح أن السعودية قد لا تكون مرحبة تماما بالاتفاق، إلا أن الرياض حريصة ايضا على حل ما للأزمة السورية ومن شأن الانفتاح الإيراني الغربي أن يسهم في التسريع بحل في سوريا. وإذا كانت التسريبات بأن طهران أرسلت رسائل سابقة لدول الخليج حول الاتفاق قبل التوصل إليه صحيحة، وكذلك أن الردود في أغلبها كانت إيجابية فتلك مقدمة لانفتاح خليجي إيراني يجب ألا ينتظر الصفقة الشاملة بين إيران والعالم. ومرة أخرى، يحتاج ذلك إلى الأخذ بزمام المبادرة وعدم الانتظار للتصرف برد الفعل. وما لم تختبر طهران في التعامل بإيجابية مع مصادر قلق دول الجوار، لا يصح ان نظل نفترض الأسوأ ونتعامل على أساسه.