مقدمة:
تواجه الدول العربية تحديات راهنة انعكست على منظومة التعليم والثقافة، وأجبرت الفاعل السياسي العربي على الإقرار والانتباه للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لتتوارى الحيثيات الثقافية والملفات الخاصة بالتربية والتعليم والفكر المستنير خاصة مع استعار الحروب في مناطق عديدة، لتنجرف معها الثقافة والفكر وتنعكس سلبا على منظومات التعليم، فبات التسرب من التعليم منتشراً بل وإجباراً في كثير من الأحيان ضد مستقبل أجيال شبت وهي لا تعرف سوى صور القتلى والدماء وصوت الرصاص ورائحة البارود خاصة في مناطق الصراع سواء في العراق أو اليمن أو ليبيا أو سوريا وغيرها من البلدان التي انكوت بنيران الحروب والصراعات البغيضة، ووسط هذا نجد أن الغرب يجتهد في الاغتراف من أحواض العلم والثقافة بل ويجدد فيهما ويحرص على البحث العلمي وتشجيع المخترعات.

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/04/ayman-hussien.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أيمن حسين
مراسل الوطن[/author]

التحديات:
هناك العديد من العراقيل التي تعوق وزارات التعليم وهيئات العلم والبحث والابتكار في الوطن العربي عن أداء دورها بقوة وفاعلية؛ لكن رغم كافة التحديات أصبحت الحكومات تدرك أن الرهان الصحيح يجب أن يوكل للتعليم ضمن رهانات المستقبل الأخرى المتضافرة، والرهان على التعليم ينطلق أولا من تشخيص واقعه ثم استقراء السيناريوهات الممكنة للنهوض به للتوصل إلى تعليم عصري مواكب للمعايير العالمية للنهوض بالمجتمع.
وقضية التعليم في الوطن العربي تزداد صعوبة مع ظروف المنطقة، وما يشهده العالم من طفرات تكنولوجية وعلمية أثرت في مناهج ودراسات التعليم وتأثرت به، ونفذت الاستعمالات التكنولوجية الجديدة إلى الفضاء التعليمي التربوي، وأجبرت الفاعلين في القطاع على وجوب الاستفادة منها وتوظيفها خدمة لتعليم مواكب للعصر لعله يكون طوق النجاة للملايين من العرب ينتشلهم من ظلمات الفقر والجهل.

التسرب:
وتعد إشكالية التسرب من التعليم إحدى أهم الإشكاليات التي تعانيها العديد من الدول العربية والتي تعوق طرق تقدمها ووسائل نموها، كما تعد أحد المؤشرات الأساسية التي تساعد على تقدير مدى كفاءة النظام التعليمي ككل، وتعكس مدى مؤازرة المجتمع له من حيث مسئوليته عن توفير مناخ صحي يحفز على الالتحاق به والاستمرار فيه، وتعتبر أحد الأسباب التي تشير إلى مدى التقدم الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.
ولعل التسرب من التعليم يعنى في كثير من الدول العربية والنامية طرح أجيال من الصغار والفتية والفتيات في منظومات هشة من عمالة الأطفال والفساد، حيث إن التسرب من التعليم أحد المشكلات الدراسية الأكثر انتشارا بين التلاميذ العرب ويترتب عليها العديد من المشاكل الأخرى التي تختلف من مجتمع لآخر وفقا للظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ففي العديد من المجتمعات العربية تمثل هذه المشكلة نسبة كبيرة بين الإناث عنها بين الذكور، ويرتفع التسرب بشكل كبير في المرحلة الابتدائية بنسبه 15% في المدن والحضر وبنسبه 35% في الريف في الوطن العربي، كما أن المناطق التي بها أعلى نسبه أمية هي التي بها أعلى نسبة تسرب وأكثر هذه المناطق في بلدان شمال إفريقيا والشام.
ويشكل التسرب من التعليم عائقاً اجتماعياً على قدر كبير من الخطورة مما يؤثر سلبا على الحقوق الأساسية للإنسان في الحصول على الحد الأساسي من التعليم، وما يصاحب ذلك من فقد الحقوق الأساسية الأخرى، ومنها فرص العمل والتمتع بمستويات صحية واجتماعية لائقة، مما ينعكس على معدلات التنمية البشرية حيث يعد إهدارا للموارد المجتمعية .
وتسير معدلات التنمية في علاقة عكسية مع الزيادة السكانية، مما يعوق المشروعات التنموية الكبرى ويؤثر ذلك سلباً على جميع محاور الحياة وربما يكون ذلك بسبب توسع الفقر في هذه الأوساط، كما أن الثراء هو الآخر ربما ينتج عنه مشكلات أهمها تفشي الجهل في المناطق الغنية بالموارد نتيجة ثقافة فساد العقول، واتجاه الشباب والفتيات للهو والعبث، وعدم تحمل المسئولية، بجانب توارى الثقافة العربية أمام الموضات الأجنبية.

محاور:
يرتبط التسرب من التعليم بمحورين أساسيين، فهناك طلاب يلتحقون بالتعليم ولكنهم لم يكملوا مرحلة التعليم الأساسي، بخلاف من لم يلتحقوا بالتعليم من الأساس، وهذه الظاهرة تكثر في المناطق الريفية، وترتبط مشكلة التسرب بمحور رئيسي وهو عدم وضوح الهدف من التعليم وجدواه، علاوة على عمل الأطفال التي ترتبط عالمياً بنحو 335 مليون طفل أغلبهم من الشرق الأسيوي وإفريقيا.
وقد أوضحت الدراسات أنه يمكن لقضية عمل الأطفال أن تختفي نظرياً؛ ولكن عملياً لا يمكن أن يحدث ذلك بسبب ارتباط العديد من الأطفال بمساعدة أبويهم في مهنتهم الأساسية كالفلاحة والزراعة والتجارة، ويمكننا حل هذه القضية بتوجيه هؤلاء الأطفال التوجيه السليم.
ويكمن الحل العملي في ربط سوق العمل بالتعليم المهني والحرفي وتقديم الدعم لهذه المدارس، ولعل تهميش الدور المهني والحرفي أدى إلى تعليم غير متكافئ، وتآكل العديد من المهن علميا وحرفيا كالزراعة والبناء وغيرهما، حيث يتم توجيه الطلاب وربطهم بالتعليم الجامعي النظري مما يؤدى إلى حدوث خلل كبير في المنظومة التعليمية والحرفية، أما ربطهم باحتياجات سوق العمل فيعود على المجتمع بتلبية احتياجاته.
ويضيف الدكتور أشرف عاشور أستاذ الجغرافيا البشرية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية إن قضية التسرب من التعليم وعمالة الأطفال لها جذور، كما أنها تم تناولها كقضية قومية حيث ينتج عنها العودة إلى الوراء بمعدلات التنمية البشرية والاقتصادية، وعلى العكس هناك دول كالصين والهند واليابان بها كثافة سكانية عالية لكنها صارت من القوى الاقتصادية في العالم، لذلك فإن القضية ليست مرتبطة فقط بالنمو السكاني بل بقضية وضع آليات للقضاء على أسبابها ومنها الأمية مما يؤكد أن الرافد الأساسي للأمية لم يجف بعد بالمنطقة العربية.
ويرى أن مسببات التسرب من التعليم ليست بالضرورة ترجع لزيادة معدلات عمالة الأطفال، ولكن تعود لمثلث الفقر والجهل والمرض والمشكلات الأسرية والمناهج الدراسية والدروس الخصوصية، فالمشكلة تكمن في التعامل مع الأجيال الحديثة بطرق التربية القديمة، بعدما ازدهرت التكنولوجية وارتبطت ارتباطا تاما بأدوات الطفل العصري وأصبح التعليم غير مواكب للتكنولوجيا.
بينما يرى الدكتور محمد أنس أستاذ جغرافيا السكان بكلية التربية جامعة الإسكندرية أن التسرب ظاهرة وليست عرضا، وأن ظاهرة التسرب تنتشر بصورة أكبر في المناطق الريفية خاصة بين الإناث وترتفع بشكل كبير في المراحل الأولية.
وقال إن مشكلة التسرب لها مردود سلبي في هدر موارد الدول حيث قامت الأمم المتحدة بوضع إطار لما يسمى بالدائرة الجهنمية التي تشمل الجهل والمرض والفقر، وينتج عنها وضع الدولة التي يلتحق بها تلك المحاور فيوضع الخطر علاوة على بداية تنشئة غير قويمة، وخطورة هذه المشكلة لا تكمن بها؛ بل بما ينتج عنها، حيث تقوم الأم بتعليم الأطفال بطرق خاطئة مما يؤدي إلى تأخرهم الدراسي وبالتالي تسربهم من التعليم وهذا يعود أيضاً إلى طرق التدريس التقليدية العقيمة بالمدارس مما يسبب تسرب الأطفال من المدرسة، وهذا يستوجب بالضرورة العودة إلى المدرسة الممتعة والتدريس بالطرق الشيقة، حيث تم عمل دراسات بينت أن نسبة تسرب الأطفال العرب خاصة بين الإناث 40% يتركن الدراسة بعد تسربهن في البداية، مما يؤكد الحاجة إلى العودة إلى طرق التعليم الشيقة بالمدارس.

التعليم العالي:
عرف العالم العربي مؤسسات التعليم العالي في وقت مبكر ممثلة في جامعة الزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، والأزهر في مصر، غير أن هذه العراقة لم تشفع في مواجهة التسارع الشديد لنمو البحث العلمي والتعليم العالي في العقود الأخيرة، فقد غدا العالم اليوم يراهن على مقدرة التعليم العالي على التغيير وتحقيق التقدم للمجتمعات وبات يصنفه مع البحث العلمي بصفتهما عاملين أساسيين في التنمية الثقافية والاجتماعية والبيئية المستدامة للأفراد والمجتمعات والأمم، ولكن هذه المقدرة تواجهها تحديات وأزمات بعضها عام على جميع المجتمعات وبعضها الآخر يخص مجتمعنا العربي نظرا لحداثة التجربة الجامعية، فأغلب الجامعات العربية لا يتجاوز عمرها أربعين عاماً تفتقر وحدة العمل المؤسسي داخل الجامعات وليس بها نظام محكم يتبنى مفاهيم ويطبقها تطبيقا صحيحا ليقضي على المشكلات قبل استفحالها فتقوض جهود الإصلاح والتطوير.
وهناك معوقات لتطوير التعليم العالي موجود في بعض المؤسسات من خلال مفاهيم مغلوطة لما يسمى برامج ضمان الجودة وكونها تعبئة أوراق بالأرقام والنسب دون وجود واقع حقيقي، كما أن خطورة البرنامج غير المناسب أشد من خطورة عدم وجود برنامج أصلا، لأنه يوهم بوجود إنجازات وحلول للمشكلات فيصد التفكر عن حل حقيقي، كما أن التطوير الجزئي حل واقعي فالتعليم العالي ليس كتلة واحدة لكنه مكون من عناصر يمكن العمل على تطويرها كل على حدة كالبحث العلمي والابتكار والتدريب.
وهذه العلاقات يظهر أثرها دون عناء، فمشروعات دعم الابتكار لن تؤتي ثمارها بمعزل عن صناعة العلم، وتوافر دراسات أكاديمية، وإرادة سياسية، ودعم مادي مستمر، وقوي وحماية قانونية للأفكار، مع تعاون تجاري وصناعي، ووعي إعلامي، وكلها مكونات أساسية لعملية الابتكار .
ولعل من أفدح الخسائر المستمرة وجود غالبية البحوث والابتكارات العربية حبيسة الأدراج دون استفادة منها مما يستدعى تطبيق استراتيجية دمج الخطط البحثية بالجامعات العربية ومراكز الأبحاث المختلفة وبحث آليات استفادة القطاع الصناعي منها، وأيضاً يظهر التقصير في مجال التدريب بعدم وجود نقطة اتصال بين مؤسسات التعليم العالي العربية وسوق العمل وفي عالم سريع التغير لن يكون لمخرجات التعليم العالي قيمة ما لم تتسلح بمعايير سوق العمل وتندمج مع أحدث المفاهيم العلمية العملية ولن يكون ذلك إلا بتوفير التدريب النابع من البحث العلمي، ويشتمل على التفكير الإبداعي وحل المشكلات وتنمية النزعة الابتكارية، أما التعليم التلقيني الذي يهدف إلى حفظ المعلومات أو اكتساب مهارات وظيفية مجردة فليس له على خريطة المستقبل مكان.

المشكلات العلمية:
من أهم المشكلات التي يجب العمل على حلها في مجالات التعليم والبحث العلمي هي الانتحال العلمي، وهجرة الكفاءات، وتدني حجم الإنفاق، أما الانتحال والتزوير فهي من الظواهر العالمية، ويشير تقرير المدونة العلمية "ريتراكشن ووتش" إلى أن أكبر معدل لسحب الأوراق العلمية بسبب الانتحال كان في إيطاليا بنسبة 66.7% تليها تركيا بنسبة 61.5% وإيران وتونس 42.9% لكل منهما، وفرنسا 38.5% والصين بنسبة 16.8% والولايات المتحدة 8.5%، وكانت صحيفة تلجراف قد أعلنت أن 15 ألف مهندس من الراغبين في العمل لدى بريطانيا قد يكونون حاملين شهادات مزورة. ولعل التغلب على هذه المشكلة يرتبط بتفعيل وسائل الكشف عنها ووجود القوانين والعقوبات وفاعلية تطبيقها، والحل يتضمن خطوات عدة منها ما اقترحته جامعة الإسكندرية ضمن مبادرتها القومية بإدراج الانتحال العلمي ضمن المقررات الدراسية لطلاب الماجستير والدكتوراه للتوعية بأخطاره وما يترتب على الوقوع فيه من عقوبات، فالفساد في الوسط العلمي أشد خطورة من ضعف المستوى والإمكانيات.
وضمن حل المشكلة أيضا توسعة قواعد البيانات الخاصة بالبحوث والرسائل العلمية وإتاحة البحث فيها والوصول إليها، وربما كانت تجربة اعتماد برامج عربية لكشف الانتحال ليصبح رصد حالات مخالفة النزاهة أيسر من ترك الفساد يتغلغل في الأوساط العلمية العربية.
أما هجرة الكفاءات فتعد تحدياً آخر لتطوير التعليم العالي في المنطقة، فحرمان منظومات البحث العلمي في البلاد العربية من جهودهم ومهاراتهم وخبراتهم يعد معوقا للتنمية، وتمثل التجربة الجزائرية لاستعادة الكفاءات العلمية أحد الحلول التي أثبتت قابليتها للتطبيق السريع.
وفي مسألة تدني حجم الإنفاق يكفي عدم اعتماد استراتيجية واضحة للبحث العلمي العربي بما تتضمنه من ضبط القوانين والإجراءات وتوفير الكفاءات والدعم المالي المشجع على الابتكار والاختراع .
لقد خسرت جامعات العالم العربي كثيرا بعدم وجود برامج لتبادل الطلبة وبرنامج عربي موحد للبحث العلمي تحاكى به الغرب خاصة تجربة "الفضاء الأوروبي الموحد للتعليم العالي" التي وضعت نموذجًا موحدًا لأكثر من 46 دولة مما يستدعى النظر في حال الجامعات العربية التي ليس بينها رابطة موحدة في مجال التعليم والبحث العلمي بل إن تبادل الرسائل العلمية وانفتاح قواعد البيانات تعده بعض الجامعات العربية معضلة حتى داخل الدولة الواحدة.