[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]

محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي
المعهد العربي للبحوث والدراسات الإستراتيجية
[email protected]
تويتر - MSHD999@

فهم واستيعاب بعض القضايا الأمنية والسياسية, التي كانت السبب وما زالت في العديد من العقبات والتحديات التي ترزح تحت وطأتها أغلب الدول العربية اليوم, وعلى رأسها التضخم السياسي والاقتصادي, والفساد السياسي, وكذلك الإرهاب العابر للحدود الوطنية وغيرها من المشاكل السياسية والأمنية يتصل في بعض جوانبه بطبيعة العلاقة بين الحاضر والماضي. والتأثير المباشر لهذا الأخير في بنية الدولة وطبيعة تكوين السلطة السياسية. فلا يمكن بحال من الأحوال ـ من وجهة نظري ـ التعرف على أسباب تلك العقبات والتحديات التي تعاني منها اليوم أغلب الدول العربية في الجوانب سالفة الذكر, ومن ثم علاجها العلاج المناسب والسليم دون استيعاب تلك التحولات العميقة التي خضعت لها تلك الدول منذ أمد بعيد, وما زالت تتعرض لها بنية ووظائف الدولة السياسية، وبالتالي الأمنية جراء تلك التحولات التاريخية.
فطبيعة تكوين السلطة السياسية من حيث القيادة السياسية والنظام السياسي, والعوامل الحضارية التي نشأت بناء عليها الدولة السياسية العربية من جهة, وكذلك طبيعة تكوين الإنسان العربي سياسيا باعتباره عنصرا من عناصر تكوين الدولة من جهة أخرى, أو من خلال جانب الجغرافيا السياسية أو البشرية, أو العوامل الأيديولوجية كالثقافة السياسية وأنظمة القيم وأنماط السلوك, كلها عوامل مؤثرة. وبالتالي بلا شك مكونة لوقائع لا يمكن فهمها بشكل صحيح دون التوغل في دراسة تلك القضايا للحصول على فهم واستيعاب دقيق لتلك العقبات والتحديات السياسية والأمنية سالفة الذكر, والتي هي في جزء كبير منها نتاج للماضي السياسي, رغم أنها يمكن أن تتشكل بعد قيام الدولة بفترات طويلة كنتاج لقضايا مشابهة أو مختلفة, فليس بالضرورة أن تعود أصولها بشكل رئيسي إلى نتاج الماضي السياسي, بل يمكن أن تتشكل وتبرز في أي وقت من الأوقات إذا توافرت لها البيئة المناسبة.
صحيح أن ذلك, أي الشكل الذي قامت عليه الدولة وتأسست بناء عليه طبيعة السلطة السياسية في الماضي, وانعكاسات كل ذلك على الحاضر, لم يكن حائلا دون استمرار تطور الدولة ومسيرة التنمية الإنسانية والعمرانية في العالم العربي, خصوصا في النموذج الخليجي منه, نظرا لوجود العديد من العوامل المساعدة, والتي يقع على رأسها, أي تلك العوامل، الريع النفطي الذي يعد اليوم أحد أهم مصادر دعم الاستقرار الاجتماعي والسياسي, وتوطيد الأمن الوطني في جزء من أجزاء رقعة الشطرنج العربية, رغم عدم تناسب التطور الكيفي مع الإمكانيات المادية من حيث الكم. والمخاطر السياسية والأمنية الكبيرة التي بدأت بالبروز نتيجة تراجع أسعار النفط, خصوصا في جانب بعض القضايا الاقتصادية والتنموية كالباحثين عن عمل وتدني الخدمات الصحية والتعليم على سبيل المثال لا الحصر.
كما أنه ومن جانب آخر يمكن التأكيد على أن القضايا المرتبطة بماضي تأسيس وقيام تلك الدول والتي ترتكز عليها هذه الدراسة لم تكن لتمنع استمرار حتمية سير المسيرة البشرية نحو الأمام (والأمثلة التاريخية كثيرة حول ذلك, فقد كانت بلاد الإغريق تزدهر في وسط أعتى الحروب, وكان الدم يسيل غزيرا، بينما جميع البلاد مزدحمة بالسكان, وكان يبدو ـ كما قال مكيافيللي ـ إن جمهوريتنا في وسط التقتيل والنفي والحروب الأهلية تصبح بهذه القوة, فإن فضيلة مواطنيها وطباعهم واستقلالهم كانت أكثر تأثيرا في توطيدها مما عملت جميع الفتن والانشقاقات لإضعافها).
إلا أنه ـ وللأسف الشديد ـ كان لها أبلغ الأثر بالرغم من ذلك, أي لقضايا الماضي المتعلقة بشكل وطبيعة تأسيس الدولة والسلطة السياسية, في تراكمية ولادة واستفحال العديد من الأمراض والأوبئة السياسية والاقتصادية الراهنة, والتي تطرقنا إلى أمثلة عنها في بداية هذا الطرح. وتعاني منها دولنا العربية, وبالفعل صعب عليها التخلص منها أو من آثارها حتى يومنا هذا, ومن أبرز تلك القضايا المتعلقة بالماضي في جزء كبير منها, والتي كان لها دور كبير ومباشر في إنتاج الأوبئة والأمراض السياسية والأمنية والاقتصادية سالفة الذكر. الولاءات والتحزبات والتكتلات الفئوية, كالتكتلات والتيارات السياسية والتيارات الدينية (الطائفية السياسية) والتيارات القبلية والتيارات الاقتصادية, أو ما يطلق عليهم بالجماعات القطاعية, وجماعات الضغط, كما يطلق عليها عند بعض الباحثين بالطبقة المتحكمة لأنها تتحكم بالكثير من مفاصل الدولة وقراراتها وتوجهاتها. ويطلق عليها البعض الآخر بنخب السلطة.
وقد أتت الغالبية العظمى منها (مع وجود استثناءات قليلة من الأعيان من طبقة مختلفة عن تلك التي عاصرت فترة ما قبل الاستقلال, أو أيام ما قبل الثورة عندما كانت البلاد تحت النظام الرأسمالي القديم, وهي الطبقة التي إما أجبرت على مغادرة البلاد, وإما حرمت من امتيازاتها بسبب تأميم ممتلكاتها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي, يعني ذلك أن الأعوان الجدد ـ الذين ظهروا في فترة السبعينيات هم من الولاءات والتيارات الجديدة ـ بخلاف أفراد النخبة السابقة يعتمدون كليا في تجميع ثروتهم على الدولة وسياساتها), لأن النظام السياسي هو في الأساس يعود في جزء من أسباب قيامه وتكوينه وقوته إلى مساعدتهم ودعمهم ووقوفهم معه في بداية ظهور الدولة الراهنة ونشوء السلطة السياسية.
مع التأكيد على أن هذا النوع من قضايا الماضي المتعلق بانعكاسات وآثار تضخم الطبقات الحاكمة أو الفئات أو التيارات المسيطرة أو المتحكمة في جانب استقرار الدولة وأمنها السياسي والوطني وغيرها من الجوانب الحياتية كالاقتصاد والتنمية ليست حكرا على الدول العربية, بل إن دولا عظمى كالولايات المتحدة الأميركية والعديد من الدول الأوروبية عانت وما زالت تعاني منه كثيرا انطلاقا من ماضيها السياسي, رغم أنها تمكنت من احتواء الكثير من انعكاساتها وآثارها بسبب اختلاف الأنظمة السياسية وتطور السلطة السياسية فيها. فما يفرق بين هذه وتلك ليس المبدأ, بل هو طبيعة تلك القضايا نفسها لا أكثر ولا أقل, ففي دراسة بعنوان: (الشركة الحديثة والملك الخاص) وصف أدولف بيرل وغاردينر ميتر النظام المتحد الذي تطور في العشرينيات من القرن العشرين في الولايات المتحدة الأميركية بأنه (المرادف العصري للنظام الإقطاعي الذي تبدو فيه الشركة وكأنها حلت مكان الدولة بوصفها النموذج المهيمن على النظام السياسي).
على ضوء ذلك فإن أهداف هذه الدراسة الذاتية الموجزة ستدور حول الجوانب الآتية:
أولا: استشراف مستقبل الدول التي يمكن أن تتضخم فيها تلك التيارات في العقود القادمة.
ثانيا: السعي لتقصي أبرز المخاطر التي من المؤكد أنها ستواجه تلك الدول من جراء ذلك التضخم في جانب استقرار النظام السياسي والأمن الوطني الاستراتيجي.