نظرية النقاط المضيئة التي نجحت في الهند لا تتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد في الحصول على التعليم, فالتعليم المجاني حق للجميع ولكن لمرحلة معينة, فلتكن المرحلة الثانوية وبعد ذلك يتم تقسيم الطلاب حسب مقدرتهم الدراسية وقدراتهم العقلية, فالطالب المتفوق يتجه للدراسة الجامعية, والطلاب المتوسطون يتجهون للتعليم الفني أو التقني..

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]

كان للرئيس الهندي الراحل أبوبكر عبدالكلام العالم النووي الذي تولى مسؤولية تطوير البرنامج النووي الهندي في تسعينيات القرن الماضي ـ جملة مأثورة كثيرا ما رددها في خطبه تقول: "إن الحلم ليس ما يأتيك في الخيال وأنت نائم، وإنما الحلم هو ما يمنعك من النوم". وبالفعل تحول الحلم الهندي إلى حقيقة عندما نجحت مؤخرا في إطلاق صاروخ فضائي يحمل 104 أقمار صناعية منها ثلاثة هندية و96 لأميركا، وقمر لكل من كازاخستان وسويسرا وهولندا والإمارات العربية المتحدة والكيان الصهيوني, الصاروخ وضع الأقمار في مداراتها بنجاح بعد ثلاثين دقيقة من انطلاقه, لتسجل الهند رقما قياسيا جديدا في عدد الأقمار التي يمكن إطلاقها بصاروخ واحد متفوقة على روسيا صاحبة الرقم القديم بـ37 قمرا.
لتحقق الهند إنجازا علميا لافتا يضاف إلى رصيد إنجازاتها الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية؛ في مسعاها للحصول على نصيب أكبر من صناعة الفضاء العالمية التي يقدر حجمها بثلاثمئة مليار دولار. بعد أن اجتذبت السمعة التكنولوجية والأسعار المنخفضة التي تتعامل بها منظمة الفضاء الهندية ـ زبائن دوليين لإطلاق أقمارهم من قاعدة "سريهاريكوتا" على الساحل الجنوبي للهند التي تعيش حاليا نهضة في مجالات التكنولوجيا وتقنية المعلومات.
وبرنامج الفضاء الهندي أسس في الستينيات بمساعدة الاتحاد السوفيتي الذي كانت تجمعه بالهند علاقات استراتيجية متميزة في مواجهة التحالف القائم بين الولايات المتحدة وباكستان, وكان الأب الروحي لبرنامج الفضاء الهندي "فيكرام سرابهاي" الذي أسس وكالة الفضاء الهندية بتكليف من جواهر لال نهرو أول رئيس وزراء للهند عقب الاستقلال، وخصص نهرو مقرا لفيكرام بجوار مكتبه وكانت مهمة برنامج الفضاء الهندي تسخير أبحاث الفضاء لتطوير الهند وتشجيع الأبحاث العلمية، واستكشاف الكواكب. وكانت الوكالة الهندية أول وكالة فضاء تصل للمريخ من أول محاولة وبدون فشل وبميزانية محدودة مقارنة بما تنفقه وكالات الفضاء الأخرى.
في محاولاتها الأولى استخدمت الهند الصواريخ السوفييتية في إطلاق أول قمر صناعي عام 1975م وبعد خمس سنوات استطاعت إطلاق مجموعة من الأقمار الصناعية التجريبية باستخدام صواريخ إطلاق محلية مزودة بمحركات صواريخ سوفييتية, حتى استطاعت في مطلع الألفية إنتاج صواريخ إطلاق هندية خالصة ذات قدرة دفع عالية, وبينما كانت البداية منصات إطلاق بدائية يتم نقلها بواسطة الدراجات الهوائية قادرة على حمل قمر صناعي لا يزيد وزنه على 40 كيلوجراما لارتفاع 550 كيلومترا فقط, تطورت بعد ذلك لتحمل أقمارا صناعية أثقل وزنا كانت تنقل لمنصات الإطلاق بعربات تجرها الثيران والبغال, تطورت أعمال وكالة الفضاء الهندية لتصل ميزانية البحوث الفضائية اليوم إلى أكثر من مليار دولار ولديها زبائن في أكثر من 20 دولة.
استطاعت الهند تحقيق كثير من أحلامها رغم الفقر وشح الموارد والمليار ومئة مليون نسمة، وساعدها في ذلك التوصل لنموذج إداري ناجح بعد كثير من التجارب المريرة التي مرت بها منذ الاستقلال, حتى استطاعت النجاح بعد خمسين عاما من المحاولات, كما أن الإنسان الهندي يتمتع بسمات شخصية ونفسية متفردة اكتسبها عبر تاريخه الضارب في جذور التاريخ, وموروث ثقافي وحضاري يعلي من قيم الالتزام والطاعة واحترام الكبير أو القائد "الإدارة"، والتواضع وحب العمل والتعاون الفردي والجماعي والطموح وحب المنافسة, أضف إلى ذلك التنوع وقبول الآخر نتيجة تعدد الأعراق واللغات والديانات والثقافات المحلية.
كما أن الهنود استفادوا من الخرافة وعالم الحكايات والأساطير التي تربوا عليها ليشحذوا قدرتهم على التعاطي مع الغموض الذي يكتنف الأشياء والعالم المتغير؛ لذلك برعوا في الاختراعات والاكتشافات واستطاعوا التعامل مع العلوم التكنولوجية الحديثة وتقنية المعلومات, والاستفادة من هذه المقومات الشخصية في تكوين بيئة أعمال قوية تقوم على المساواة وتكافؤ الفرص؛ لا يهم أية لغة تتكلم أو ما هي ديانتك أو عرقك أو مظهرك أو سلمك الاجتماعي, الأهم فيها كم حققت إنجازات وأضفت من إيرادات وأنتجت من سلع وخدمات.
اعتمدت الهند على التعليم في تحقيق نهضتها, ولكنها اصطدمت بقلة الموارد المالية اللازمة لتعليم مئات الملايين من الطلاب, فلجأت إلى فلسفة "النقاط المضيئة" بإنشاء معاهد تكنولوجية متطورة مزودة بأحدث ما توصل إليه العلم الحديث في العالم هذه المراكز لا تقبل سوى الطلبة المتفوقين دراسيا والموهوبين علميا بعد اختبارات ومقابلات معقدة؛ يتم خلالها اختيار أقل من 10% من المتقدمين الذين تتوافر فيهم الشروط لاستيعاب المناهج الدراسية الحديثة التي تحتاج قدرات عقلية متميزة, من هذه المعاهد تخرجت أجيال فذة من الموهوبين الذين تعتمد عليهم كبريات الشركات العالمية في صناعة البرمجيات مثل "ميكروسوفت" و"آي بي إم" و(إنتل) و(أوراكل) و(أدوبي) وغيرها من الشركات متعددة الجنسيات التي افتتحت فروعا لها في الهند.
يكفي أن نعرف أن مخترع أكبر وأضخم بريد إلكتروني في العالم الـ"هوت ميل" الهندي صابر باتيا هو خريج أحد المعاهد التكنولوجية في مدينة بنجالور عاصمة "السوفت وير" في العالم, وبعد وصوله لأميركا عام 1988م التحق بجامعة ستانفورد وعقب التخرج استطاع ابتكار برنامج يوفر لكل إنسان بريده الخاص ليخترع الـ"هوت ميل" عام 1996م ويتجاوز عدد المشتركين فيه الملايين في سنوات قليلة مما دفع بيل جيتس لشرائه من صابر بـ400 مليون دولار وتعيين صابر كخبير في شركة "مايكروسوفت" وتحول صابر لمليونير ونجم مجتمع يتهافت الملوك ورؤساء الدول والحكومات على استضافته والوقوف بجانبه.
نظرية النقاط المضيئة التي نجحت في الهند لا تتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد في الحصول على التعليم, فالتعليم المجاني حق للجميع ولكن لمرحلة معينة, فلتكن المرحلة الثانوية وبعد ذلك يتم تقسيم الطلاب حسب مقدرتهم الدراسية وقدراتهم العقلية, فالطالب المتفوق يتجه للدراسة الجامعية, والطلاب المتوسطون يتجهون للتعليم الفني أو التقني ويتخرجون فنيين ومساعدين للأطباء والصيادلة والمهندسين ..إلخ, وتتاح لهم الفرصة بعد ذلك للحصول على الشهادة الجامعية إن أرادوا من خلال برامج التعليم المفتوح, أما الطلاب أصحاب العلامات الضعيفة فيتم إلحاقهم بمراكز التدريب المهني ليتعلموا حرفة أو مهنة يحتاجها المجتمع بشدة وتستطيع أن تدر عليه دخلا مجزيا, وإذا رغب مستقبلا تكملة تعليمه فالفرص أمامه متاحة.