هناك الكثير من الأزمات التي تم عرضها في الكتب السماوية ومنها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ الأزمة التي واجهت سيدنا يوسف عليه السلام عندما قام بتفسير الرؤيا التي رآها الملك، وهذا فقط كان دور الوحي أنه استطاع أن يعلمه تفسير الرؤيا، ولكنه عندما أراد أن يدير هذه الأزمة كان الأمر يحتاج إلى إدارة سليمة، وأيضا الوقوف على نقاط الضعف الحقيقية..

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/salahdep.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. صلاح الديب[/author]

استكمالا للمقالين السابقين واللذين بدأنا فيهما بالتركيز على أمر غاية في الأهمية، ونحتاج إلى أن يكون واقعا نعيشه في حياتنا اليومية وفي كافة نواحي الحياة، ألا وهو أننا يجب أن نقف وقفة مع أنفسنا، وعلينا أن نتخذ القرار الآن وليس بعد قليل سوف نعمل جاهدين على تعلم الصيد، ولا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن ننتظر السمكة التي تعطى لنا من الآخرين ونكون جادين في هذا القرار ولا نتخلى عنه. فحياتنا ستختلف اختلافا جذريا إذا كنا نعي قيمة أن نصنع لأنفسنا المكانة، ونتجاوز بعزيمتنا نحن وليس بيد الآخرين كل المحن والصعاب والمشكلات والأزمات .
ولقد أوضحنا في المقالين السابقين أننا لو أمعنا النظر جيدا نرى أن الله سبحانه وتعالى على مر العصور حرص كل الحرص على أن يوضح لنا أن خروج الإنسان من الأزمات لا يحتاج إلى معجزات لتجاوزها والخروج منها أو حتى لتجنبها، ولكن بالعمل الجاد والاعتماد على النفس والأدوات المتاحة .
ويوجد العديد من الأمثلة التي أراد الله بها أن يوضح للإنسان كيفية تجنب الوقوع في الأزمات بإدارة واعية تعرف كيفية الاستفادة من كافة الأدوات المتاحة، وأيضا الاهتمام بقيمة الوقت والاستفادة منه على الوجه الأكمل، وأيضا كيفية تطويع كافة العوامل المحيطة التي تصب جميعها في صالحه لتجنب الوقوع في الأزمات .
وهناك الكثير من الأزمات التي تم عرضها في الكتب السماوية ومنها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ الأزمة التي واجهت سيدنا يوسف عليه السلام عندما قام بتفسير الرؤيا التي رآها الملك، وهذا فقط كان دور الوحي أنه استطاع أن يعلمه تفسير الرؤيا، ولكنه عندما أراد أن يدير هذه الأزمة كان الأمر يحتاج إلى إدارة سليمة، وأيضا الوقوف على نقاط الضعف الحقيقية، وأيضا وضع استراتيجية للفترة التي سوف تدار فيها هذه الأزمة وذلك للتغلب عليها، وتجنب جميع أضرارها، ونرى هذا في الآية التي يحدث فيها سيدنا يوسف الملك وهو يقول له في قوله تعالى «قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» (يوسف/:55).
ومع أنني لا أنظر إلى هذه الآية من المنظور الدينى كوني أنني غير ذي اختصاص في هذا الأمر، ولكني سأتناولها من الناحية الإدارية وأرى منها كيف تكون إدارة الأزمة من جذورها، وكما اعتدنا أن نوضح في كل ما نقدم لكم .
أولا أرى أن الإبداع في أن يحدد من هو معني بإدارة الأزمة، ومهما اختلفت هذه الأزمة، أن يحدد في البداية كيفية الحفاظ على الموارد وذلك يعني أن توضع في مكان أمين بعيدا عن أيدي كل العابثين، وهذا يتطلب أن يتم حصر كل هذه الموارد قبل تخزينها في هذه المخازن، وذلك للمتابعة والرقابة بالطبع بين الحين والآخر، وعدم ترك الأمر بدون وضع كافة الإجراءات الاحترازية التي تعمل على النيل من هذه الموارد، سواء كان النيل منها قليلا أو كثيرا، وهذا غير مسموح به لا من قريب ولا من بعيد، وذلك للحفاظ على هذه الموارد والعمل على استخدامها بالشكل الأمثل .
ولقد كان سيدنا يوسف عليه السلام حفيظا؛ أي أنه كان أمينا، ولكن لم يكتف بهذا عندما كان يتحدث مع الملك، فالأمر لا يحتاج الأمانة فقط، وهي ليست الأساس، مع أننا لا نغفل قيمتها وأهميتها، ولكن أوضح قيمة ومعنى غاية في الأهمية وهي أنه قال أيضا عليم، إذا هذا يعتبر مفتاحا سحريا يجب أن يعي الجميع قيمته إذا الفرد أو القائد عليم بكافة التفاصيل هذا يعني أنه لا يمكن أن يزج به إلى الهاوية بتقارير عارية تماما من الصحة؛ لأنه يعلم بواطن الأمور، ويستطيع أن يواجه كافة المخاطر والأزمات المتوقعة؛ لأنه يعلم كافة التحديات بعد وإن حصر كافة الموارد وعمل على التأمين والحفاظ على هذه الموارد .
وبهذا استطاع سيدنا يوسف عليه السلام التغلب على الأزمة الاقتصادية بالحفاظ على الموارد المتاحة، وأيضا العمل على خلق موارد جديدة هدفها عدم الاعتماد بصورة كاملة على الموارد الطبيعية المعرضة إلى أي نقصان في وقت من الأوقات، واستطاع بذلك تجاوز هذه الأزمة بكل نجاح وباقتدار بإدارة ناجحة، وتضافر كل الجهود وبمواجهة نقاط الضعف بكل شجاعة وحسم .
- الرؤيا المرشدة
وتتمثل رؤيته المرشدة المستمدة من علام الغيوب سبحانه حينما فسر رؤيا الملك (سنين القحط والجفاف) وعمل خطة استراتيجية فريدة حينما أصبح العزيز (وزير مالية مصر) من شروط القائد أن يكون له أتباع مخلصون حتى ولو مجموعة قليلة جدا من الأفراد .
وفي المدة التي قضاها سيدنا يوسف في السجن بضع سنين (7 إلى 9 سنوات) كان يبلغ رسالته حتى أن بعض المفسرين قالوا إن معظم السجناء آمنوا به كرسول ونبي مما تبين لهم من صلاحه وحسن إدارته للسجن، حتى أن يوسف أدار السجن إدارة أثرت حتى على سلوك معظم السجناء حتى ذكر في القرآن (إنا نراك من المحسنين)، وحينما أراد أن ينفذ خطته اختار أتباعه إذ أمر بإخراج السجناء (المؤمنين) وقلدهم أرفع المناصب على جميع أرجاء مصر، وذلك لتنفيذ خطته الاستراتيجية، واختار المؤمنين حتى يستطيع أن ينفذ خطته بدقة فالأتباع يكملون القائد (فريق عمل).
- التحفيز
والتحفيز له أدواته ونذكر بعضها وقد واستخدمها النبي يوسف عليه السلام.
- الاستحواذ على القلوب
حيث كان الجميع داخل السجن يحبونه من سلوكه، واستطاع يوسف عليه السلام تغيير سلوكياتهم، وهكذا القائد له القدرة على تحريك الأفراد نحو الهدف.
فما كان من السجناء وأتباع النبي يوسف إلا أن أطاعوه، فإن المحب لمن يحب مطيع؛ ففي المنظمات إن كان الموظفون يحبون قائدهم فسوف يبذلون المجهود بإخلاص لأنهم يحبون القائد، وهكذا كان المسئولون عن عملية تخزين القمح وحفر الآبار استعدادا لسنوات القحط.
- التمكيـــــــــــــن
وزع على جميع بلاد مصر مراقبين من زملائه بالسجن!! لأنهم مؤمنون لكي يشرفوا على بناء خزانات القمح وحفر الآبار أثناء الرخاء، وذلك لمجابهة القحط، ولم يتبع أسلوب الجاسوسية، أعطاهم توجيهات وترك لهم المسئولية، وهكذا يكون القائد الفعال يكون حوله قادة. وطبعا عندما تبين للنبي يوسف حسن إدارتهم وذكاؤهم وأمانتهم بعد الإيمان فهكذا الإيمان دائما يحسن من سلوك الأفراد.
ونلاحظ مدى تواضع وأمانة وإخلاص النبي الكريم يوسف عليه السلام حينما أكرمه الله وأخرجه من السجن لم يتكبر على هؤلاء المساكين المسجونين، بل حولهم إلى قادة بعد أن كانوا سجناء عبيدا!!؛ وانظر الآن إلى حال المساجين حتى ولو سجن بريئا تتبعه خطيئته حتى الموت!! هل هذا منهج الأنبياء؟؟!! أليس الأنبياء هم القدوة في هذه المواقف؟؟!!
فالويل كل الويل للذين يمارسون القهر والذل ضد السجناء بعد خروجهم من السجون.
- الذكاء
على الرغم من أنه نبي مرسل إلا أنه عليه السلام كان حاد الذكاء (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما).
حيث يقال إنه استطاع بذكائه الخارق بفضل العلي الكريم سبحانه استطاع أن ينجح في تخزين القمح لمدة سبع سنين، وعندما حاول كهنة المعابد الكافرون في مصر تقليده فشلوا إذ لم يعرفوا السر؛ وهو أن يوسف عليه الصلاة والسلام خزن القمح بالسنابل، وكثر من عدد المخازن في جميع أنحاء البلاد في مصر(في مدينة إدفو بأسوان يوجد أحد مخازن يوسف عليه السلام حتى الآن).
ولكن الكهنة من جشعهم أرادوا أن يوفروا تكلفة المخازن فخزنوا القمح من غير السنابل (فأكله السوس بعد سنة واحدة فقط).
- الكفاءة
استطاع الكريم بن الكريم بفضل الله الواحد الوهاب أن يدير الأزمة الاقتصادية بكفاءة عالية ومتميزة؛ ليست بمصر بل في جميع المناطق التي تقع حول مصر؛ لأنه كان قائدا عظيما، وربى حوله قادة عظاما بعد أن كانوا في ظلمات السجون أصبحوا قادة يحركون أُممًا، وواجه الأزمة ببراعة وأمانة وكفاءة مشهودة من ملك مصر آنذاك حتى أن النبي الكريم يوسف عليه السلام كان يبيع القمح بنفس السعر قبل الجفاف لم يرفع الأسعار!!؟؟ كما أنه وفر طعام الحيوانات من السنابل وأي كفاءة اقتصادية أعلى من ذلك .
تأملوا معي نقاء ومصداقية وأعلى درجات كفاءة هذا الوزير النبي والقائد العظيم على الرغم من الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي لم تمر على مصر، وعلى جميع المناطق حولها مثلها من قبل لم يشتك أحد من قلة الزاد أو غلو الأسعار أو انهيار التجارة لا في مصر ولا في جميع المناطق المحيطة بمصر .
التعلم:
- تكونت لديهم خبرة في معالجة الأزمات.
- تعلموا أن للدورة الزراعية وجهين: رواج وجدب.
- حددوا الأهداف قبل القيام بالأعمال.
- خططوا للأعمال قبل تنفيذها.
- لاحظوا ودرسوا الظواهر ودونها.
- وضعوا مقياسًا للنيل ولاحظوا وعرفوا من قياسه سنوات الفيضان من عدمه للاستعداد لها.
- أدركوا أن قيادة الأزمة تحتاج إلى قائد له صفات محددة كالعلم والحفظ والأمانة والصدق.
- تعاونوا وتكافلوا في الأزمة.
ويتضح أن إدارة الأزمات الاستباقية كان لها الدور القيادي والريادي في إدارة هذه الأزمة أيضا، حيث إنه لم ينتظر إلى أن تأتي السنين العجاف على أهل مصر، بل تعامل مع الحدث قبل وقوعه، كما يتضح لنا أهمية القائد الذي يدير الأزمة ومدى إدراكه ووعيه بكل من الأزمة وفريق العمل ومعرفة كافة المقومات التي سوف يستخدمها للتعامل مع الأزمة .
من خلال هذه الأمثلة، يتضح أن الأمر لا يحتاج إلى معجزة سماوية أو وحي لتجنب مثل هذه الأزمات أو تجاوزها .

مع أمل اللقاء والشرف بكم في العدد القادم إن شاء الله تعالى .

[email protected]