أغلب الظن أن التقدم التكنولوجي أشاع ورسخ روح "الاستسهال" والكسل لدى البشر، وكذلك الحال فيما يتعلق بالمعلومات والأفكار. فلم يعد أحد يبحث ويدقق، أو حتى يستخدم الملكة الأهم لدى البشر من تفكير نقدي فيما يتلقى ويختبر. ووصل الكسل والاستسهال على ما يبدو إلى حد الاستكانة لأن يفكر أحد عنك ويستنتج ويقدم لك رأيا جاهزا فتسير به وعليه..

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/amostafa.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.احمد مصطفى [/author]

لا يقتصر أمر الأخبار الكاذبة والمفبركة، التي يسلط عليها الضوء الآن مع حملة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضدها ردا على عداء الإعلام له منذ حملة ترشحه للرئاسة، على المعلومات والقصص الخبرية فقط، بل يمتد أيضا إلى مقالات الرأي والمدونات المنتشرة على الإنترنت، سواء على مواقع وسائل الإعلام التقليدية أو صفحات المدونات. وربما كانت الأخبار الكاذبة أشد إثارة، إنما المقالات والأفكار المفبركة والملتوية أكبر خطرا لأنها تتضمن "أنصاف حقائق" واستنتاجات ملتوية لا تستند إلى مقدمات دقيقة. وتقديم نصف الحقيقة أشد خطرا وتأثيرا سلبيا من الكذب المباشر، من ناحية لأنه يصعب اكتشافه ومن ناحية أخرى لأنه يترك أثرا أقوى على المتلقي وكأنه يشكل له رأيه نيابة عنه.
وكما سهلت الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، للأسف الشديد عملية "غسيل الأخبار" ـ أي فبركة معلومة وطرحها ثم إعادة تدويرها عبر صفحات ومواقع لتجد طريقها لوسائل الإعلام التقليدية وكأنها خبر ـ أصبحت أيضا وسيلة انتشار أوسع للأفكار والآراء التي تتعمد ليَّ الحقائق للتأثير في تشكيل الرأي العام. ولا يختلف الوضع كثيرا عن طريقة التزييف في الأخبار والمعلومات، بل زد على ذلك أن هذا الفضاء المفتوح وسهولة الوصول لمواقع التواصل مكنت كثيرين من عملية "غسيل أفكار" وتبييض الوجه بفجاجة أحيانا. ويجد هؤلاء القدرة على الكذب والتدليس بطريقة يخجل معها الشيطان، ولا يدري المرء كيف تنتشر أفكارهم ويقتنع بها كثيرون بينما الحقائق (وبعضها قريب جدا لدرجة أن من يقتنعون بعكسها من أفكار مزيفة خبروها بأنفسهم في حياتهم) تقول عكس ذلك.
أغلب الظن أن التقدم التكنولوجي أشاع ورسخ روح "الاستسهال" والكسل لدى البشر، وكذلك الحال فيما يتعلق بالمعلومات والأفكار. فلم يعد أحد يبحث ويدقق، أو حتى يستخدم الملكة الأهم لدى البشر من تفكير نقدي فيما يتلقى ويختبر. ووصل الكسل والاستسهال على ما يبدو إلى حد الاستكانة لأن يفكر أحد عنك ويستنتج ويقدم لك رأيا جاهزا فتسير به وعليه وكأنه رأيك الذي جهدت في تكوينه بعد معرفة وتمحيص. صحيح أنه قبل التطور التكنولوجي كانت المعرفة، ومن ثم تكوين الآراء والأفكار، مقصورة على دائرة ضيقة تسمى أحيانا "نخبة" أو "مثقفين" أو ما شابه بينما بقية الجماهير تستقي كل المعرفة ونتائجها من تلك الدائرة. لكن تلك "الندرة" وإن لم تتح ديموقراطية توفر المعلومات إلا أنها لم تمنع العقل من التفكير والتدقيق والنقاش والنقد. وذلك عكس "الوفرة" الحالية التي توفر بكثافة وتتيح وصولا غير محدود للمعلومة والرأي، لكنها في الوقت نفسه تعزز انتشار الدس المعلوماتي والتزييف الفكري.
لا غرابة أن من يعملون على غسيل الأفكار ينتمون في الأغلب لتيارات تعتمد الكذب والتلفيق وسيلة لبلوغ غايات محددة، ومن ثم لا يكون صعبا عليهم تغليف ذلك الكذب والتلفيق بغلاف محكم يتجاوز بمراحل قدرة السياسيين على الكذب والنفاق. لذا لم يدهشني كثيرا أن أقرأ في صحيفة عالمية المفترض أنها ذات مصداقية عالية مقالا لأحد عناصر تنظيم يشرح فيه باستفاضة أن التنظيم لا علاقة له بالإرهاب. وفي حال الجدل والنقاش، قد يقبل المرء بعرض وجهات نظر مختلفة. لكن أن يسمح منفذ إعلامي تقليدي مثل صحيفة أميركية كبرى لمتحدث باسم تنظيم بطرح مقولة شديدة الفجاجة تتناقض مع كل ما رصده الباحثون والأكاديميون حول كل التنظيمات ومرجعها دون أن يقدم حجة معقولة فهذا صعب قبوله. يتفهم المرء أيضا ـ دون أن يقبل بذلك ـ أن تكون الصحيفة معارضة للحكم في الدولة التي يحسب عليها التنظيم، لكن ذلك لا يجوز أن يطغى على عوامل المصداقية والثقة التي يصعب استعادتها لدى الجمهور إن اهتزت.
يتحدث المذكور في مقاله بالصحيفة الأميركية أنه عضو بالتنظيم وليس إرهابيا، ويستفيض في وصف التنظيم بأنه معارضة سياسية تسعى لإصلاح الأوضاع في بلاده. طبيعي أن يسعى عضو قيادي في تنظيم إلى تبييض وجه تنظيمه، لكن من يوفر منصة لهذا "التنظيف" يتعين عليه أن يضع الجانب الآخر من القصة. وليس الأمر بحاجة إلى جهد أو بحث أو تمحيص إذ يكفي أن تتصفح يوتيوب لتجد مقاطع بالصوت والصورة لقيادات بتنظيمات يربطون أنفسهم مباشرة بالإرهاب، ويكفي أن تطالع أسماء قيادات إرهابية في أفغانستان أو حتى سوريا وغيرها وتتبع علاقاتهم الأسرية لتصل بك إلى قيادات هذه التنظيمات.