داخلياً وفق "الانعزال" و"الهيكلة" و"التعاون الروسي".. ويعمل خارجياً على "طمأنة الحلفاء" و"عدم التدخل اتخذ 4 قرارات تتعلق بـ"السجون" والتأشيرات" و"التزوير" و"المواجهة الداخلية"

بعد أكثر من شهرين على تنصيبه، يحمل وصول دونالد ترامب إلي كرسي رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، تغييرات كثيرة داخل البيت الأبيض، ربما تتغير معها قواعد النظام العالمي،وباتت ردود أفعال السياسة الأمريكية غير مأمونة العواقب، وغير متوقعة، بل وغريبة لكثير من الحكومات والبلدان، فلا أحد ينكر أن أمريكا لا تزال القوة العظمى المؤثرة في العالم التي تنعكس فيها الأحداث على بلدان المعمورة،نظراً لكونها أكبر اقتصاد عالمي، وتملك أكبر ترسانة نووية، ولديها أكبر جيش،وعملتها (الدولار)هي العملة الدولية المقبولة في التجارة العالمية.
ولعل تجاهل الأحداث السياسية والاقتصادية التي تشهدها الولايات المتحدة، هو تجاهل لمستقبل دول وشعوب الأرض، فأمريكا هى أكبر ضامن للسلام الدولي، كما أن اقتصادها يؤثر تأثيراً مباشراً في الاقتصاد العالمي، وترامب تولى رئاسة البيت الأبيض بفكر جديد يرمي فيه لتغيير قواعد السياسة والاقتصاد، مما جعل الشكوك والقلق تكتنف العلاقات الإقليمية والدولية، خاصة أن إدارته لم يظهر منها سوى التوجه نحو العزلة.
وأعلن ترامب منع دخول مواطني عدد من الدول الإسلامية بلاده، حتى لو كان لدى أفراد منهم أوراق وتأشيرات صالحة وصادرة من الجهات الرسمية الأمريكية،وذلك تعميم أيضا غير مسبوق في العالم الحر فلا جريمة يمكن أن تعمم على شعب كامل، مما أوجد كثيرا من المعارضة حتى في الداخل الأمريكي، بل من مسئولين يعملون في الإدارة نفسها، كما وجد معارضة من القضاء الفيدرالي.
وبات واضحاً أن قواعد اللعبة تتغير دون أن يعرف أحد ما هي القواعد الجديدة، وهو ما يعرض السلم العالمي إلى مخاطر، فالولايات المتحدة ليست بلدا صغيرا يمكن عزل ما يجرى فيه ونسيانه، وليست بلدا غير مؤثر، بل لها ثقل مادي ومعنوي هائل على تطور البشرية في العصر الحديث، فلولا تقدم العلم فيها لما أصبحت البشرية ما عليه اليوم،والنهج الذي تتبناه الإدارة الجديدة يعني الإخلال بالقواعد الدولية المتعارف عليها والتي وثقتها معاهدات واتفاقات دولية.
الدور الأمريكي:
كانت الولايات المتحدة طوال القرن التاسع عشر في مرحلة من العزلة الطوعية، لكن منذ بداية القرن العشرين وجدت أن تلك العزلة تعرض الأمن العالمي والأمريكي إلى الخطر الداهم، وكذلك تقييد التجارة العالمية، فبدأت أولا بالتحالف ضد الإمبراطوريات القديمة في الحرب العالمية الأولي، ثم ضد الفاشية والنازية فى الحرب العالمية الثانية.
وعلى الجانب الاقتصادي دفعت للوصول إلى اتفاق "برتن وود" الاقتصادي، ثم بعد ذلك بالدفاع عن التجارة الحرة والممرات المائية في العالم، حتى أضحت في معظم سنوات القرن العشرين نشطة على الساحة العالمية إلى درجة أن العالم انتقى مدينة نيويورك مكانا لحكومة العالم الافتراضية.
ربما تضطر الإدارة الحالية إلى التراجع كي لا تتحمل أثمانا باهظة، فاضطراب المشهد العالمي اليوم سوف يسبب الكثير من الخلل عالميا، وفى غياب نظام سياسي وفكري يقود الإدارة الجديدة سيتعرض أمن شعوب كثيرة للمخاطر منها على وجه التحديد شعوب الشرق الأوسط، وقد تلجأ الإدارة الأمريكية الجديدة لإعطاء الضوء الأخضر من الإدارة للعبث بالأمن الإقليمي من قبل إسرائيل،مما يعرض المنطقة إلى حروب مستدامة بدلا من التنمية المستدامة ويؤدى إلى كوارث سياسية.
أمام كل هذه المعضلات التي تحيط بالشرق الأوسط نرى أن مبادئ النظام والسلم العالمي تختل مما يسبب شبه استباحة للمنطقة الموبوءة بالعنف والحروب الأهلية، ومن هنا فإن الحديث مع الإدارة الأمريكية أن تسارع في رفع الغموض الذي قد يكون مطلوبا في العمل التجاري ولكنه مدمر في العمل السياسي خاصة الدولي.
توجهات غريبة:
في حالة دونالد ترامب تبدو المشكلة أكثر حدة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فهناك شكوك كبيرة حول ما قال أو لم يقل عما يعتزم القيام به في الشرق الأوسط، وتسلط وجهات نظره التي هي في الواقع مجموعة من الميول والنزعات، حيث تكتنف سياسات ترامب ستة عناصر هي:
أولاً: يركز نهجه في الشرق الأوسط علي تنحية مسألة الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان، جانبا فلا تشمل رؤيته لدور أمريكا في المنطقة فكرة الالتزام بنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وخلال الحملة الانتخابية قال ترامب إنه يتوق لأيام الطغاة الأقوياء الذين كانوا قادرين على الحفاظ على الاستقرار والنظام في المنطقة، كما سخر من إنفاق المال في الشرق الأوسط إلا إذا كان مرتبطا بشكل مباشر بالأمن القومي الأمريكي، وتماشياَ مع هذه الآراء يرجح أن يخفض تمويل الولايات المتحدة لتحسين الديمقراطية والحكم في المنطقة، ولكن هذا الأمر لن يكون له تأثير ملموس كبير، فقد كانت المساعدات المتعلقة بالديمقراطية والحكم غير فعَّالة في معظم دول الشرق الأوسط .
ثانياً:أظهر ترامب اهتماماً قليلاً بتعزيز حقوق المرأة والأقليات والفئات المهمشة في الولايات المتحدة، ومن غير المرجح أن يظهر المزيد من الدعم لهذه الجماعات في الخارج، ويبدو أن ترامب سيتبع نهجا قومياً انعزالياً، وسيتجنب الأعباء والتشابكات الخارجية.
ثالثاً:يرغب ترامب في العمل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فمن الواضح أن إقامة علاقات أفضل مع روسيا هي إحدى نواياه الأساسية للتعامل مع منطقة الشرق الأوسط التي تعمها الفوضى، فهو معجب بقوة بوتين وسلطته القوية، الأمر الذي يؤكد تمكنه من إعادة العلاقات مع موسكو مما يتناقض بشكل حاد مع فشل سلفه الرئيس باراك أوباما في إعادة هذه العلاقات، فالعمل مع موسكو لتدمير الجماعات المسلحة في سوريا استراتيجية أفضل بكثير من التي تتبعها إدارة أوباما وهى دعم الجماعات المتمردة ومحاولة التخلص من نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
وبالنسبة لترامب فإن التعاون مع بوتين سيغنى عن الحاجة إلى تعميق انخراط الولايات المتحدة في المنطقة، كما أن مسألة إنشاء مناطق آمنة في سوريا ستقلل تدفق اللاجئين إلى أوروبا وأمريكا، فالعمل مع بوتين - في رأيه - سيمكن الولايات المتحدة من قتل الإرهابيين ومنع وصولهم إلى أمريكا.
رابعاً: تتضمن أفكار ترامب في الشرق الأوسط طمأنة الحلفاء وتجاهل تصرفاتهم السيئة، ففي عهد أوباما توترت علاقات الولايات المتحدة مع أهم شركاء لها في المنطقة بشدة، ولا يبدو أن ترامب سيهتم كثيرا بهذا الأمر خصوصا عندما يتعلق الأمر بمكافحة الإرهاب،ولكنه ورغم ذلك يهتم بإسرائيل، ودعا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لزيارة واشنطن، وربما تكون هناك توترات على الطريق بين واشنطن وتل أبيب، إلا أن العلاقات مع نتنياهو ستتحسن، ونظرا لرفض ترامب فكرة التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد، ورفضه صفقة النووي مع إيران، فإن العلاقات مع بلدان الشرق الأوسط وإسرائيل من المرجح أن تتحسن للأفضل.
ولفت مستشارو ترامب إلى أن المستوطنات الإسرائيلية ليست عقبة في طريق السلام، كما أن رفضه صفقة إيران قد يخفف بعض التوترات مع بعض القوى الإقليمية في المنطقة العربية، ويبدو أنه من المرجح ألا يضغط على مسألة حقوق الإنسان والإصلاح السياسي في عدد من البلدان العربية.
خامساً:تحوي سياسة ترامب في الشرق الأوسط ركيزة أن بناء الأمة يبدأ من الداخل، وخلال حملته الانتخابية أعلن ترامب أنه يرغب في بناء الأمة في الداخل، مؤكدا أنه سينهى عصر بناء الدول في الخارج بشكل سريع وحاسم، وقال إن فشل الولايات المتحدة في العراق كلفها مليارات الدولارات، وزعزع استقرار الشرق الأوسط.
وسيتم اختبار مسألة بناء الأمة الخاصة بترامب بشكل مبكر مع هزيمة داعش في العراق،حيث يتطلب الأمر ثلاثة مشاريع ضخمة كإعادة الأعمار بعد الصراع، ومزيد من الأمن، وتوفير الحكم الرشيد، والعراقيون فقط يمكنهم القيام بهذه المهمة لكنهم بحاجة لمساعدة الولايات المتحدة، وبينما يبحث ترامب عن دور مناسب لبلاده ستكون محاولاته في العراق وأي بلد عربي للمساعدة فقط وليس للحرب.
سادساً:فكرة " افعل الأمر بنفسك "، فمثل عقيدة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، يقول ترامب إنه يجب على حلفاء وأصدقاء أمريكا أن يتحملوا مسؤولية أكبر بخصوص أمنهم، ويبدو أن ترامب مثل نيكسون يتجه لنهج أقل تدخلاً في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، فيميل لمزيد من ضبط النفس في ممارسة القوة العسكرية الأمريكية عندما لا يخدم الأمر المصالح الأمنية الحيوية للولايات المتحدة فهو مصمم على إنهاء دور أمريكا باعتبارها شرطي الشرق الأوسط.
اختلاف السياسات:
يحاول ترامب البحث عن تجميل صورته، خاصة أمام الرأي العام الأمريكي، بعد سلسلة التظاهرات ضده التي شملت العديد من المدن والولايات في بلاده، لهذا فقد اتخذ أربع خطوات وصفها غالبية الخبراء بالسياسات المتخبطة وهى:
1- نظر ترامب في مراجعة طرق الاستجواب المستخدمة مع المشتبه في علاقاتهم بالإرهاب، وفي إمكانية أن تعيد وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي أيه) فتح سجون سرية خارج الولايات المتحدة، بجانب دراسة الموقف حيال دول حظر إصدار التأشيرات وهى سوريا والعراق واليمن وإيران وليبيا والصومال والسودان.
2- من المتوقع أيضا أن يعلن ترامب إذا ما نجح في خطوته هذه فرض قيود على الهجرة من سبع دول أفريقية وشرق أوسطية ضمنها سوريا واليمن والعراق،ولمح ترامب أيضاً إلى حظر دخول اللاجئين من بعض البلاد إلى الولايات المتحدة حتى يتم تشديد عملية التدقيق والتمحيص في طلباتهم؛ لكنه تلقي ضربة قاصمة لقراره بحظر تأشيرات سبع بلدان مسلمة من القضاء الفيدرالي الأمريكي الذي أسقط وعطل مرسوم ترامب.
3- شدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على ضرورة القضاء على العنف والجرائم، لافتاً إلى أنه تم تشكيل فريق عمل من أجل ذلك، بما فيها مواجهة الوضعية الصعبة التي تحدث في شيكاغو والعديد من المدن الأمريكية، وقال في كلمته من واشنطن إن البيت الأبيض قرر تدمير العصابات والمافيات الإجرامية بعد أن صارت أمريكا دولة مليئة بالمخدرات وأسعارها أرخص من حلوى الأطفال.
4- وعد ترامب، في وقت سابق، بالشروع في تحقيق كبير في مزاعم احتيال وغش في الانتخابات الرئاسية ببلاده، وكتب في تغريدة على موقع تويتر إن التحقيق سيركز على أصوات غير قانونية في ولايتين - لم يحددهما - وفي سجل الناخبين المسجلين كموتى، وقال إن ثمة ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين من المهاجرين غير الشرعيين قد صوتوا لهيلاري كلينتون في الانتخابات، لكنه لم يقدم أي أدلة على ذلك.
قلق أوروبي:
رغم إعلان الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، في مؤتمر صحفي، أن إدارته "آلة متناغمة منضبطة"، قال سيناتور جمهوري كبير إن إدارة ترامب في حالة اضطراب،ورداً على سؤال حول هذا الموضوع في مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية والدفاعية (وهو اجتماع سنوي بين مسئولي السياسة الخارجية والدفاعية) قال جون ماكين، رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، إن الاستقالة الأخيرة لمايكل فلين مستشار الأمن القومي لترامب بمثابة مؤشر على أن كل شيء لا يسير على ما يرام في البيت الأبيض.
وكان ماكين قد قال في وقت سابق إن هذه الاستقالة هي دليل مقلق على الخلل الذي يسود حالياً إدارة الأمن القومي، وتساءل حول النية الحقيقية للإدارة الأمريكية الحالية حيال روسيا.
وخيمت أجواء من القلق على مؤتمر الأمن في ميونيخ،حيث تخشى أوروبا من قيادة ترامب للولايات المتحدة في مسار تراجع عن دور القيادة التقليدية،خاصة في ظل وقت تواجه فيه القارة مساعي روسيا لتعزيز نفوذها، ونشوب حروب في دول شرق وجنوب البحر المتوسط، وتزايد هجمات من متشددين.
وكان ترامب قد أثار قلق الحلفاء، أثناء حملته الانتخابية، بتخليه عن آراء حزبه الجمهوري بشأن العلاقة بين أمريكا وأوروبا، والإعراب عن إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
الخلاصة:
أمام هذه المعطيات، يمكن إدراك أن السياسات التي يتخذها ترامب ستكون في المستقبل ستصب علي الطريقة الأمريكية الجديدة لخدمة مصالح بلاده وحلفائها، وترك العالم بشكل متدرج في مشاكله وصراعاته،وعدم لعب واشنطن دور الشرطي في العالم إلا لخدمة مصالحها، وفى نفس الوقت إطلاق العنان لإسرائيل ودعمها في سياساتها ضد الفلسطينيين والعرب.
ويدرك المتأمل لتوجهات ترامب رغبته في فرض اسلوبه لمحاربة الإرهاب، وفرض عقوبات على شعوب بعينها بسبب أفراد، والتقرب من روسيا وجعلها حليفاً مستقبلياً بدلاً من كونها عدواً تاريخياً للولايات المتحدة، مع ترك الأبواب لاستقبال حلفاء جدد طالما يخدمون مصالح البيت الأبيض.
ويرمى ترامب لترسيخ أفكار بناء الدولة من الداخل بالاهتمام بالشئون المحلية أكثر من التطلع للدبلوماسية والدور الخارجي، هذا بجانب طمأنة الحلفاء في أوروبا، رغم أفكاره حول تفسخ الاتحاد الأوروبي، وأيضا طمأنة الصين بعد تراجعه عما أطلقه من تصريحات حيالها بقوله مؤخرا أنه يدعم سياسة صين واحدة.
أما على الصعيدين التجاري والمالي لا تزال الشكوك والمخاوف تكتنف شركاء ومنافسي أمريكا التجاريين، وحتى أصحاب المصانع ورجال الأعمال والتجار الأمريكيين، حيال اعتزام ترامب تطبيق سياسات حمائية مبتكرة في التجارة قد تقلص حجم التجارة العالمية، وتحد من واردات الولايات المتحدة،وتعمق أزمات النفط والمشاكل المصرفية والمالية في العالم.