الحمد لله الـذي خـلـق الإنسان ، وعـلمه البـيان ، وخـلـق الشمس والقـمـر بحـسبان ، والصلاة والسلام عـلى النبي العـدنان وعـلى آله وصحـبه أهـل الـرفـعـة والشـأن ، وعـلى التابعـين لهـم بإحسان عـلى طـول الـدهـر والأزمان وعـلى تـعاقـب المـلـوان وبعـد :

فـيقـول الله عـلى لسـان سـيـدنا إبـراهـيـم خـلـيـل الـرحـمـن: {ربـنا إني أسـكـنـت مـن ذريتي بـواد غـير ذي زرع عـنـد بيـتـك المحـرم ، ربـنا لـيـقـيمـوا الصـلاة، فاجـعـل أفـئـدة من الناس تهـوي إليـهـم، وارزقـهـم مـن الثـمـرات لـعـلهـم يشـكـرون } (إبـراهـيـم ـ 37).
فـقـد كان هـذا المـكان جــدبا لا زرع فـيه ولا مـاء ، ولا فـيه شـيء مـن مـقـومات الحـياة إلا الـهـواء ، ومـعـنى {أسـكـنت}أي وطـنتـهـم في هـذا المـكان.
أما المنـزل فـهـو المـكان الـذي تـنـزل فـيه مـرة أو مـرات ثـم تـرحـل عـنه لا تقـيـم فـيه إقـامـة دائـمة ، فـهـو كالاسـتـراحـات التي تجـعـل للـطـوارئ ، ولا يـقـيم فـيها أهـلها إلا عـدة أيـام في السـنـة كلها.
ومـن ذلك ما روي أن سـيـدنا رسـول الله )صـلى الله عـليه وسـلم( لـما نـزل بـبـدر سـأله صاحـب الـرأي الصحـابي الجـلـيـل الحـباب بن المـنـذر بن الجـمـوح الأنصاري الخـزرجي، يا رسـول الله: أهـذا مـنـزل أنـز لـكـه الله؟، أم هـو الـرأي والحـرب والمكـيـدة ؟ قـال رسـول الله )صلى الله عـليه وسـلم(: (بـل هـو الـرأي والحـرب والمـكـيـدة)، قال : إذن لا أراه لـك بمـنـزل ، فانهـض بالناس حـتى نأتي أدنى مـاء القـوم فـنـنزله ، ثـم نـغـور ما وراءه مـن القـلـب، (الـفـتحـات) ثـم نبنـي عـليه حـوضـا فـنـمـلأه مـاء، ثـم نـقـاتـل الـقـوم فـنـشـرب ولا يشـربـون ، فـقال رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم): ( لـقـد أشـرت بالـرأي ).
إذن: السـكـن فـيه دوام واسـتقـرار، أما المـنزل فهـو اسـتـراحـة ومـوقـت، إن شـئت أن تـنـزل به نـزلـت وإن شـئت أن تـرحـل عـنـه رحـلت.
أما البـيت فـيـلاحـظ فـيه البـيـتـوتـة، والإنـسان لا ينـام نـوما مـريحـا إلا في مـكان يامـن عـلى نـفـسه وعـلى ماله، فـإن الخـائـف وكـذلك الجـوعـان لا يـنـاممـرتاح البال.
ومـن السـكـن قـوله تعـالى في بني إسـرائـيـل: { وقـلنـا مـن بعـده لـبني إسـرائيـل اسـكـنـوا الأرض، فإذا جـاء وعـد الآخـرة جـئـنا بـكـم لـفـيفـا } (الإسـراء ـ 104).
أخـذ أحـد المسـتشـرقـين هـذه الآيـة ، وجـعـلها دلـيـلا عـلى أن الأرض كـلها مـباحـة لليهـود ، يسـكـنون حـيث شـاءوا ، كـيـف وهـم في الأرض ، وأنت حـين تـريـد هـذا الأمـر تقـول : اسـكـن المـدينة مـثـلا، فـتعـين المـدينـة مـكانا للسـكـن، لــكـن: {اسـكـنـوا الأرض }لها معـنى آخـر، هـو التقـطـيع الـذي قال الله عـنه:{وقـطـعـناهـم في الأرض أمـما} (الأعـراف ـ 168)، يعـني: ليـس لهـم وطـن مخـصوص، وسـوف ينساحـون في الـدنيا كلها ، ولـن يتمـكـن أحـد مـن ضـربهـم والقـضاء عـليهـم وهـم عـلى هـذه الحـالة مـن التقـطـيع حـتى يأتي أمـر الله ويجـمعـهـم في مـكان واحـد وعـنـدهـا سـيسهـل القـضاء عـليهـم.
ومعـنى كلمة:{آيـة} في (سـورة سـبأ ، الاية 15) نقـول: فـلان آيـة في الكـرم وفـلان آية في الأدب وفـلان آية في الشـجـاعـة .. الخ، والمـراد بالآيـة: شـيء عـجـيـب نادر الـوجـود، والله سـبحانه وتعالى حـدثـنا عـن أنـواع ثـلاث مـن الآيـات: آيـات كـونية مـثـل قــوله تعـالى:{ ومـن آيـاتـه اللـيـل والنهـار والشـمس والقـمـر لا تسـجـدوا للشـمس ولا للـقـمـر واسـجـدوا لله الـذي خـلقهـن إن كـنـتـم إياه تـعـبـدون} (فـصلت ـ 37)، وقـوله تعالى:{ومـن آياته أنـك تـرى الأرض خـاشـعـة فـإذا أنــزلنا عـليها المـاء اهـتـزت وربـت، إن الـذي أحـياهـا لمحـيي المـوتى إنـه عـلى كـل شـيء قـديـر} (فـصـلت ـ 39).
وآيـات بمعـنى معـجـزات وخـوارق للـعـادة، تأتي عـلى يـدي الـرسـل لـتـؤيـدهـم وتـكـون دلـيـلا عـلى صـدقهـم في البـلاغ عـن الله ، كـما في قــوله تعالى:{اسـلك يـدك في جـيبـك تخـرج بـيضـاء مـن غـير سـوء آيـة أخـرى} (القـصص ـ 32)، ثـم تطـلـق الآيات عـلى آيات الكـتاب الحاملة لأحـكام الله في القـرآن الكـريـم، وهـذه كلها سـواء كانت آيـات كـونيـة، أو معـجـزات أو آيـات القـرآن كـلها عـجائب، وإن كانت هـذه العـجـائب واضـحـة في الآيات الكـونية وفي المعـجـزات، فهـي أيضا واضحـة في آيات الـكـتاب الحـكيـم، فـآيات القـرآن الكـريـم عـجيبة في تنـظـيم حـياة الناس بـدليـل أن الـكافـر به سـيضطـر إلى الأخـذ بأحـكامه والانصـياع لـقـوانـينه، لا عـلى أنها دين، ولـكـن عـلى أنها قـوانـين حـياة لا تسـتقـيـم حـياة الإنسان إلا بهـا.
ونأتي مـثـلا إلى مـشـكلة الطــلاق وأحـكام الـقـرآن في الـطـلاق التي طـالما انـتقــدوها وهـاجـمـوها، واتهـمـوا ديـن الله ظـلما وجهـلا بالـقـسـوة، ثـم بـعـد ذلك نـراهـم يـلجـأون إليه ولا يجـدون حـلا لبعـض مـشكـلاتهـم إلا في الـرجـوع إلى أحـكام الله في الطـلاق ، مـع غـير الـمـؤمـنـين به، وهـذا منتهى الغـلـبة لـدين الله أن يـرجـع إليه الـكافـر به، إنهـا غـلـبة الحـق وغـلبة الحجـة والـبرهـان.
وسـأل أحـد المسـتشـرقـين المتعـنتـين عـن قـولـه تعالى:{هـو الـذي أرسـل رسـوله بالهـدى ودين الحـق ليظهـره عـلى الـدين كله ولـو كـره المشـركـون } (الصـف ـ 9)، وبعـد أربـعـة عـشـر قـرنا مـن الـزمـان مـازال في الـدنيا يهـودية ونصـرانية وبـوذية .. الخ، وهـذا الكـلام يـدل عـلى عـدم فـهـم لمعـنى الآيات ، فـلـيس معـنى الآيـات المـراد :{ليظـهـره عـلى الـدين كله} أن يصـبح الناس جـميـعـامـؤمـنـين، بـدلـيـل قـوله تعالى:{ولـو كـره المشـركـون}.
إذن: فالـدين سـيظهـر ظهـور حجـة وظهـور غـلـبة عـلى أنـظـمتهـم وتقـنـيـاتهـم وسـوف يطـرأ عـليهـم مـن مـشـكلات الحـياة مالا يـجـدون له حـلا إلافي شـرع الله (الإسـلام)، وهـذا هـو الظهـور المـراد به في الآيـة.
ثـم يـوضـح الله تعالى ماهـية الآيـة التي كانت لسـبأ في مسـكنهـم، فـيقـول الله تعالى:{جـنـتان عـن يمـين وشـمال} (سـبأ ـ 15)، ومـا دام الله تعالى وصـف هـاتـين الجـنـتـين بأنهـما آيـة ، فـلا بـد أن فـيهـما مـن العـجـائب، ما لا يـوجـد في غـيرهـما، وانهـما يخـتـلفـان عـن الجـنـان التي نعـرفهـا.
وقـد حـدثـنا العـلـماء عـن هـذه العـجـائب فـقالـوا: عـن هـاتـين الجـنـتـين لا تجـد فـيهـما عـقـربا ولا حـية ولا ذبابا ولا بـرغـوثا .. ولا شـيئا من الحـشـرات الضـارة .. الخ ، فـإن طـرأ عـليهما طـارئ وفي جـسمه مـن تـلك الحـشـرات لضـارة فإنها تمـوت بمجـرد أن يـدخـل الرجـل إحـدى الجـنتـين، حـتى يـدخـل وهـو نظـيف، وهـذه كلها مـن عـجائـب مـا في تلك الجـنـتين.
أخـرج ابن ابي حـاتم عـن ابن زيـد ـ رضي الله عـنه ـ في قـوله تعالى:" لـقـد كان لسـبأ في مسـكـنهـم آيـة" (سـبأ ـ 15)، قال: لم يـكـن يـرى في قـريتهـم بـعـوضـة قـط ، ولا ذبـاب، ولا بـرغـوث ولا عـقـرب ، ولا حـية ، وإن الـركـب ليـا تـون في ثـيابهـم القـمـل والـدواب الضـارة فـما هـو إلا أن ينـظـروا إلى بـيـوتهـا فـتـمـوت تلك الـدواب الضـارة ، وإن كان الإنـسان ليـدخـل الجـنـتـين ، فـيـمسـك القـفـة عـلى رأسـه ، ويخـرج حـين يخـرج وقـد امـتـلأت تـلك القـفـة بأنـواع الفاكهـة ، ولـم يـتــنـاول منها شـيئا بـيـده) أورده السـيوطي في الــدر المـنـثـور (6/687).
ونلـحـظ هـنا أن الآية مـفـردة والـعـجـائب كـثـيرة، لأن كلمـة آيـة تطــلـق عـلى الجـمــع أيضـا، ومـن ذلك قـوله تعـالى في معـرض الحـديث عـن سـيـدنا عـيسى بن مـريـم (عـليه السـلام):{وجـعـلـنـا ابن مـريـم وأمـه آيـة} (المـؤمنـون ـ 50)، ولـم يـقـل آيـتـين، قالـوا: لأن الأمــر العـجـيب الـذي جـمعـهـما واحـد، فـعـيسى عـليه السـلام ولـد مـن غــير ذكـورة، وأمـه حـمـلـت وولــدت كـذلك مـن غـير ذكـورة فـالآيـتـان آيـة واحـدة.
ومعـنى قـوله تعالى:{جـنـتان عـن يمـين وشـمال} (سـبأ ـ 15) يحـتـمـل أن يـكـون لـكل واحـد منهـم جـنـتـان واحـدة عـن اليـمـين والأخـرى عـن الشــمال ، وبـيت الـرجـل في الـوسـط، ويحـتمـل أن تكـون الجـنـتان لأهـل سـبأ جـميـعـا، بمـعـنى أنها جـنان مـوصـولة عـن اليـمـين ، وجـنـان مـوصـولة عـن الشـمال ومـتـواصـلة لا يمـيـز بينـها بسـور ولا حـائـط ، مما يـدل عـلى أن الأمـن كان مـسـتتـبا بينهـم، وقـد شـاهـدنا مـثـل هـذا في عـدة أمـاكـن مـن العـالم حـيـث الحـقـول والمـزارع ممـتــدة متصـلة لا يفـصـل بينها إلا مجـرد سـك بسـيـط .
.. وللحـديث بقـية إن شـاء الله في الاسبوع القادم.