[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
إن مسرحية القرد الكثيف الشعر، من زاوية رؤية أخرى، صورة لتشويه الروح نتيجة ما يلحق الإنسان في المجتمع الأميركي من حيف وغبن، إزاء انسحاقه كقيمة وقوة أمام قوة الآلة وقيمتها، وانسحاقه كإنسان ذي كرامة، أمام الفروق الطبقية وفوارق الحياة الاجتماعية التي جعلت من "يانك" الوقاد، قردًا كثيف الشعر، يعيش حياته أمام نار فرن الصلب. وجعلت ملدرد، ابنة صاحب الشركة، زهرة عطر تؤذيها الأنسام الجارحة، ويؤذيها أن تقع عيناها على الإنسان يانك؟!

يوجين أونيل 16 تشرين الأول "أكتوبر "1888-27 تشرين الثاني "نوفمبر" 1953.. علَم من أعلام المسرح الأميركي، أرسى الدعائم القوية لذلك المسرح، واستطاع أن يؤكد ذاته من خلال أعمال كبيرة، وحصل على جائزة نوبل للآداب "لأنه وفق في التعبير عن مواقف إنسانية عامة، داخل إطار الدراما".
ولد أونيل في بوسطن، لأبوين ممثلين، وكان أبوه يمثل أدوار شخصيات شكسبير، ويجوب البلاد الأميركية متنقلًا من شرقها إلى غربها، يوم كان المسرح متنقلًا هناك في أميركا. وكأنما ورث الطفل جوب البلاد عن أبويه، إذ قضى معظم حياته متنقلًا من بلد إلى بلد، ومن مهنة إلى مهنة. درس الملاحة وحصل على شهادتها، وطاف البحار على ظهر زورق نرويجي، ودخل عام 1914معهد بيكر لدراسة الأدب الإنجليزي والدراما، وقد اكتشف ميوله المسرحية وصمم على الكتابة للمسرح. وكان لمرض أصابه فضل إطلاق الشرارة الأولى في ذهنه. وبدأ منذ ذلك الحين يصدر مسرحياته التي بغلت ثلاثين مسرحية، نال على أساسها ثلاث جوائز بوليتزر. وكانت الأولى عام 1920على مسرحية ما وراء الأفق، أما جائزة نوبل فكانت عام 1936.
خدم أونيل المسرح الأميركي، واحتل مكانة مرموقة بين كتابه، وأصبح لأميركا بفضله أدبها المسرحي، بعد أن كانت تعتمد على أدب أوروبا، إذ لم يكن للمهاجرين الذين تجمعوا طلبًا للمادة، أي رصيد أدبي في الأرض الجديدة. وقد ظهرت هذه الناحية التجارية في أكثر الأعمال الأدبية الأميركية، واضطر الكاتب الأميركي إلى أن يكون خاضعًا للمخرج، ولدور الإنتاج، ورغبات التجار من أصحاب المسارح، فهم يعدلون إنتاجه بما يتلاءم وشباك التذاكر.
كانت المسرحيات التي كتبها أونيل في بداية حياته الأدبية مسرحيات قصيرة عن حياة البحارة، وقد شجعه الناقد الأميركي باريت كلارك على الكتابة عمومًا، وعلى معالجة حياة البحارة بشكل خاص، لأنه خبر تلك الحياة. وكتب أونيل من مسرحيات البحر عددًا لا بأس به، صدرت في كتاب، وهي: ظمأ ـ الهداف سديد الرماية ـ الحبل ـ زيت الحيتان ـ حيث وضعت علامة الصليب ـ شرقًا إلى كارديف ـ بدر على جزر الكاريبي ـ رحلة العودة الطويلة. ومن مسرحياته الأخرى: مؤلفاته المسرحية: رغبة تحت شجرة الدردار ـ الإمبراطور جونز ـ الذهب ـ قبل الإفطار ـ آه أيتها البراري ـ وراء الأفق ـ آنا كريستي ـ فاصل غريب ـ رحلة يوم طويل في الليل ـ القرد كثيف الشعر ـ الحداد يليق بإلكترا ـ عودة رجل الثلج ـ الإله الكبير براون. ومعظم هذه المسرحيات كانت تدور حوادثها على ظهر السفن، وتعرض حياة البحارة ومشكلاتهم وهمومهم، تلك الحياة التي خبِرها تمامًا. ولم تحقق هذه المسرحيات نجاحًا وإنما لفتت إليه أنظار بعض النقاد، وربما كان الفضل في ذلك لباريت كلارك.
بعد هذه المرحلة، وبعد تخرجه من معهد بيكر الذي اطلع فيه على إنتاج كثير من الكتاب، في مقدمتهم سترندبرج وإبسن، إضافة إلى أدب الإغريق وأدب العصر الأليزابيثي، بعد هذه المرحلة تعرَّف على جماعة من الشباب يؤلفون جمعية صغيرة، كان لها الفضل في تمثيل إنتاجه، وفي شهرته فيما بعد، وهي جماعة "بروفنستاون"، وهم هواة يمثلون المسرحيات القصيرة، وقد قدموا موسمين في عامي 1915ـ1916.
تنهض فلسفة أونيل على إيمانه بأن الإنسان حر في الاختيار وأنه يستطيع أن يتحكم بمصيره، وأن شر البلاء الذي يصيب النفس وأساس مصائبها، لا يأتيها من الخارج، فما الخارج إلا مثير بالنسبة لها. إن الرعب والهلع وكل ما يسبب عدم التوافق وعدم الارتباط بالمجتمع، وما يؤدي في النهاية إلى الرؤية السوداء والتفسير المغلوط للعالم.. شر كل ذلك البلاء كامن في النفس، في العقل الباطن، في الشخصية ذاتها، في عجز الإنسان عن أن يكون كل شيء، وأن يكون ثقة في حد ذاته. وقد كتب أونيل في مذكراته يقول: "الإنسان مقدّر عليه الخطيئة، وفي باطنه قوى العذاب تتمثل في ضميره، تلهبه بسياط الندم". وربما كانت هذه نافذة من نوافذ سيجموند فرويد، الذي فتح الطريق أمام المتأملين في النفس البشرية، وكشف بعض أسرارها، وبيّن ديناميتها التي تجعل منها ذلك الكل المركّب المتشابك المتداخل الغريب، الذي يحتوي في داخله الفزع والرعب، وإحدى النزعات التي تتقاتل وتتحيّن الفرص للظهور إلى حيز الوجود خلسة، من وراء عين الرقيب الحارس، ألا وهو العقل الواعي"نظير العقل الباطن أو نقيضه".
استفاد فريق من الكتاب من تجربة فرويد، بأن عرف أغوار النفس البشرية، واكتشف مجاهل خصبة لم ترتدها الأقلام بعد، واجتلى سر تلك المخيلة التي تخلق لنا في داخلنا الجنة والجحيم، وترينا العالم بمنظار أسود أو وردي أو أبيض، وتبدأ ترعبنا بوسوستها المهلكة وتزيد، بالتعاون مع العالم الخارجي وأحداثه، من قوة الضغط على الروح البشرية التي تأخذ بالتعري من أثوابها وأقنعتها وقدراتها، نتيجة تزايد الضغط الداخلي، وآلام التجارب، واشتداد الموقف الخارجي خطرًا وتأثيرًا وقوة.
عند هذا الحد تقف الروح في العراء مجردة من كل ما يحصنها ويقيها لفح الشمس المحرقة.. تقف لتواجه مصيرها ووحدتها وعجزها، وقد ألقت كل سلاح، وطهرها الألم وجردها من كل قوة احتمال ومقاومة.. تقف وقد تساقطت الأقنعة قناعًا إثر قناع، وظهر الوجه الحقيقي لتلك الروح.. الوجه الذي لا تظهره إلا الأحداث الضخمة، وتألبُ المصاعب، ورنينُ مطرقة الألم على الأوتار الحساسة في النفس.
في هذا الاتجاه، أو هذا العالم الخصب، بدأ الكتّاب يغْنون الأدب بآثارهم التي وضعها النقد تحت اسم "إنتاج المذهب التعبيري"، وكان منهم كتّاب مسرحيون كفرانك ودكند، سترندبرج، فرانك مولينار. وبهؤلاء الكتّاب تأثر يوجين أونيل، ونهل من النبع الذي نهلوا منه، فتجلى المذهب التعبيري، وظهرت خصائصه في بعض مسرحياته، حتى أصبحت علمًا عليه. وترمي المسرحية التعبيرية إلى تصوير دخيلة النفس البشرية وتجسيم تجارب العقل الباطن، أما وسائل الكاتب التعبيري إلى ذلك فمختلفة متعددة، فهو يستغل الحوادث الخارجية أولًا، إذ يضع البطل في موقف يثير فيه انفعالاته الداخلية، ويتنقل بعد ذلك إلى زيادة الضغط عليه بواسطة تخيلات من داخل البطل، تتجسد في شكل أشباح ومخاوف تتجلى في العالم الخارجي، ويلجأ كذلك إلى استخدام المؤثرات الصوتية كالطبول والأصوات المزعجة أو المثيرة المرعبة. ويستعمل الموسيقا، والإضاءة، وتعدد المناظر، ليساعدنا على فهم الحالات النفسية التي يمر بها البطل، ويهدف من الضغط على نفسه إلى أن تنكشف مكنوناته. إذ إن الكاتب يرينا العالم من خلال نظرة بطله إليه، وبتلك الكيفية التي يراه عليها، ويعكس البطل ما في نفسه على العالم، ولا يراه رؤية موضوعية. وكأن التعبيريين يريدون القول بأن ليس هناك رؤية موضوعية، وليس هناك حقيقة معيّنة للأشياء أو للعالم أو للمرئيات. فنحن نرى الأشياء، ونفسر الأحداث، وننظر للأمور، من خلال نفوسنا المشحونة برغباتنا أو مخاوفنا وتجاربنا الخاصة وأفكارنا عن العالم، ومن خلال طموحاتنا ومصالحنا وعواطفنا، بالدرجة الأولى. فالشيء الذي أراه أسود قد يراه غيري أبيض، والذي أراه خيرًا قد يراه غيري شرًا، وما أراه جميلًا قد يراه غيري غاية في القبح. وهكذا تعددت الرؤى بتعدد النظارة، إذ لكل روح طريقتها في التعبير عن الأشياء وفي رؤيتها للواقع، ذلك التعبير وتلك الرؤية المنبثقتان من طبيعة المواقف والحالات النفسية والوجدانية التي تقفها الشخصية أو تعانيها من العالم المحيط بها وفيه.
والأشياء في العالم الخارجي، مرتبطة برصيد لها من الذكريات في العقلين الواعي والباطن، وهي كامنة على شكل تجارب موروثة أو مكتسبة في حياة الفرد، ومن هنا تتلون الأشياء بلون النفس. ولم يبتعد التعبيريون عن الرموز فقد استعملوها لأنها تساعد الكاتب على التعبير تلميحًا، إذا لم يسعفه التصريح في التعبير. والرمز يساعد على تحقيق غرض الكاتب الذي يبتغي الارتفاع والسمو إلى آفاق يقوى التلميح في توصيلها والإيحاء بها. من هذا المنظور، نقارب مسرحيتين ليوجين أونيل: القرد الكثيف الشعر، والإمبراطور جونز.
في مسرحية "القرد الكثيف الشعر"التي ترجمها جلال العشري إلى العربية، نجد أنموذجًا للمسرح التعبيري، يقدمه أونيل من خلال شخصية بطله يانك، العامل في معمل الحديد والصُّلب.. إنه يقف أمام الفرن بكل إيمان وثقة بنفسه، يستمد ذلك من جسمه القوي المكسو بالشعر الكثيف، ومن قدرته على العمل والاحتمال.
وكان الحادث الذي أوقع يانك في أزمة، هو دخول ملْدرد، ابنة رئيس اتحاد مصانع الحديد والصلب، إلى الفرن، لترى تجربة عملية. وعندما رأته في ثورة من ثوراته في العمل، أغمي عليها وصرخت قبل أن تفقد وعيها: "أبعدوا هذا القرد الكثيف الشعر عني". ومنذ ذلك الحين بدأ يانك يتنبه إلى نفسه، ويراقب ذاته، ويحاول أن يمتحن صلته بالناس. فبدأ بالاعتداء على الأرستقراطيين لينتقم لنفسه، ردًّا على الإهانة التي لحقت به من ملْدرد. وبدأ يشعر بعدم ارتباطه بالناس، ويشك بنفسه، وبقدرته الروحية وبثقته بنفسه، بعد أن كان الثقة مجسمة. واستمر يلاحق ذاته، حتى فقد مقوماته كإنسان، ووقف مع القرود في حديقة الحيوان، جسمًا قويًّا بلا قيم روحية ولا سموّ. وكانت المصيبة التي وقعت فوق رأسه، نابعة من ذاته أصلًا، فهو عدو نفسه، وصراعُه كان مع بذور عدم الثقة الكامنة في أعماق نفسه، وأخيرًا تحطم وفقد انتماءه للعالم. وأصبح الصلب الذي كان يعتز، في بدء المسرحية، بأنه صانعُه.. أصبح ذلك الصلب سجنه وعدوه، وقفصًا يهين إنسانيته، ويحفظ جسمه.. جسم القرد الكثيف الشعر.
في هذه المسرحية يتجسد صراع الإنسان مع ذاته.. مع ماضيه ومع محاولته الانتماء. في المسرحية نجد مميزات المذهب التعبيري واضحة: البطل واحد.. الحادث الخارجي الذي أثار الصراع داخل نفس البطل هو دخول ملدرد وموقفها من يانج.. تطور الأحداث وتفاعلها في نفس البطل، وفي رؤيته للعالم ولعلاقته بالناس، من خلال الصراعات والحالات النفسية في داخله هو ذاته.. نهايته الأليمة، بعد أن تجردت روحه من كل سلاح، وعجزت عن التلاؤم مع المحيط الذي هي فيه.
إن مسرحية القرد الكثيف الشعر، من زاوية رؤية أخرى، صورة لتشويه الروح نتيجة ما يلحق الإنسان في المجتمع الأميركي من حيف وغبن، إزاء انسحاقه كقيمة وقوة أمام قوة الآلة وقيمتها، وانسحاقه كإنسان ذي كرامة، أمام الفروق الطبقية وفوارق الحياة الاجتماعية التي جعلت من "يانك" الوقاد، قردًا كثيف الشعر، يعيش حياته أمام نار فرن الصلب. وجعلت ملدرد، ابنة صاحب الشركة، زهرة عطر تؤذيها الأنسام الجارحة، ويؤذيها أن تقع عيناها على الإنسان يانك؟!
لقد انتهى يانك إلى حديقة الحيوان، واندمج بأصله الأول الذي أعاده إليه داروين. إنه لم يتمكن من الارتفاع والسمو والتغلب على الحيوان في نفسه، ولا على الفوارق الاجتماعية والمادية في المجتمع الأميركي البالغ القسوة، ولذلك سقط، وهبط سلم الأحياء إلى أن اندمج في القرد. هذا هو تأثير الحضارة الآلية المادية على الإنسان الأميركي، كما ظهرت في أدب أونيل، ها هي صور الأفراد التي عرفها من خلال واقع الحياة الأميركية، الإنسان المعلّق بين المثل والطين، بين سماء عيسى وأرض جالوت.
أما في مسرحية "الإمبراطور جونز" التي ترجمها للعربية أنيس منصور، فتتجلى معالم المذهب التعبيري كافة عند أونيل، ولا يهمنا أن نبحث فقط عن تلك المعالم حين نستعرضها هنا. تبدأ المسرحية بمشهد واقعي عادي، كسائر المسرحيات الواقعية، ولكن من نقطة يكون فيها البطل قد امتلأت حياته بالأفعال والمشكلات التي تفزعه، ولا يريد أن يواجهها، كما لا يستطيع أن يخفيها، ويدفعها بعيدًا عنه. فالإمبراطور جونز، كان قبل وفوده على الجزيرة التي نصّب نفسه إمبراطورًا عليها، كان في نيويورك، وقد قام هناك بأعمال مرعبة كثيرة، قتل شخصًا في أثناء اللعب، هو "جب"، وفي السجن حاول أن يقتل الحارس، وتشاجر مع آخرين، وفر هاربًا، وما زال مطاردًا. وقد لجأ إلى هذه الجزيرة النائية، واستغل جهل الزنوج وسذاجتهم، واخترع ـ ليسيطر عليهم ـ أسطورة، كتلك التي يؤمنون بها، وهي: أنه لا يُقتَل إلا برصاصة من فضة، وأنه يملك تلك الرصاصة، وهو وحده القادر على أن يقتل نفسه، عندما يحين الوقت. وكان يروي للزنوج كيف كان يَقتُل البيض في نيويورك. ومنذ تلك اللحظة بدأ الزنوج يقدسونه ويخشونه ويحسبون حساب سطوته. وأمِن هو شر الأعداء، وبدأ يبتز ما لهم، ويجمع على ظهورهم الثروة التي يريد، ليهرب بعد ذلك بما جمع، إلى بلد ما، حيث يعيش هناك على هواه، آمنًا مطمئنًا.
وعندما تُفتح الستارة عن أول مشهد من مشاهد المسرحية، نرى منظرًا واقعيًّا هو قصر الإمبراطور جونز، وفيه كرسي العرش، ومن خلف القصر تلوح أعالي الأشجار وقمم التلال، ويظهر أول ما يظهر "سميزرز"، وهو رجل أبيض وفد إلى الجزيرة وبدأ التعاون مع جونز ليجمع ثروة هو الآخر، وكان جونز يتغاضى كثيرًا عن سوءاته ويساعده على تنفيذ أغراضه.. نرى سميزرز وهو يمسك زنجية عجوزًا، كانت آخر من رحل إلى الغابة هربًا من حكم جونز، ويعرف سميزرز منها أن الزنوج سيعلنون ثورة على جونز. وتظهر في هذا المشهد حقيقة المشاعر التي يكنها سميزرز لجونز، ونوع العلاقة التي تربطه به. فسميزرز يريد لجونز الهلاك، ليتفرد هو باستغلال الزنوج، وسيتعاون معهم على البحث عن جونز ليقتله، ومن ثم يستولي على ثروته. عندما يعرف سميزرز حقيقة فرار الزنوج، يظهر فرحه ويترك المرأة. وتبدأ سخريته من جونز بأن يطلق صفرة حادة توقظ جونز من النوم، فيخرج ثائرًا مهددًا من يصفر، ولكن سمزرز يقول له: أنا الذي أصفر وليس الزنوج، لأن الزنوج هربوا. ويظهر أن كلًّا منهما يفهم الآخر ويمثل معه دورًا، وعندما يتأكد جونز من هرب الزنوج، يقرر الفرار هو الآخر، لينجو بنفسه وبما ملك. وما عليه إلا أن يجتاز الغابة إلى شاطئ النهر، وهناك يتلقفه زورق فرنسي يحمله إلى جزر المارتنيك، ومنها يذهب إلى حيث يشاء، وسيأخذ معه ثروته التي يحتفظ بها في مكان أمين من الغابة. وعندما يذكّره سميزرز بالزنوج، يشير جونز إلى مسدسه الذي يحتوي على بضع رصاصات، من بينها الرصاصة المصنوعة من الفضة، وإلى أنه سيتخذ منها وسيلة يخوفهم بها، إذا استطاعوا اللحاق به.
وهنا يبدأ قرع الطبول في الغابة ويزداد ارتفاعًا، وعندما يتساءل جونز عن هذا الصوت يقول له سميزرز: إن الزنوج يحتفلون ويرقصون ليقدموه ضحية بعد ذلك. يُظهر جونز عدم الاهتمام، ولا يعير أهمية لتذكير سميزرز إياه بمخاطر السير في الغابة ليلًا، واحتمال ظهور الأشباح، بل يوضح أنه تعلم في الكنيسة المعمدانية، أن الأشباح لا وجود لها إلا في أذهان الأطفال والسذج والزنوج.. وبينما يدخل جونز الغابة، يذهب سميزرز ليحرض الزنوج على قتل جونز قبل نجاته بالمال.
يسير جونز في الغابة قلقًا يلاحقه الخوف من الخارج، وفي نفسه مكمن الرعب، فيضل الطريق، وتبدأ المخاوف والأشباح تتجسم أمامه، ويساعد في إحداث التأثير عليه تداخل الظلال في الغابة، ومناظر أعجاز الأشجار. وفي أول الجولة يبحث عن صندوق أمواله فلا يجده، ويزداد تخبطًا في الغابة، يسمع قرع الطبول يقترب منه فيزداد هلعًا وجريًا، وتتراءى له الأشباح فيطلق عليها الرصاص. وتتوالى المشاهد المرعبة: الجرائم التي ارتكبها، شبح الزنجي جف الذي قتله في أثناء اللعب، الحارس الذي اعتدى عليه، مشاهد بيع الرقيق، زنوج يتحركون على شكل كورس إلى الأمام والخلف، وهم يبكون، وجونز يزداد اضطرابًا وهلعًا، ويزداد من حوله قرع الطبول شدة واقترابًا وهو يركض، إلى أن يصل إلى شاطئ النهر، وهناك يقابله ساحر زنجي من الهنود الحمر، يرقص حوله رقصة مرعبة.. ثم يخرج له تمساح من النهر. ويكون جونز قد استنفد الرصاصات التي معه، وهو يطلقها على الأشباح والرؤى، ولم تبق معه إلا رصاصة "الفضة". وعند النهر يكون قد بلغ نهاية المقاومة، فيطلق الرصاصة على نفسه.
وهذا هو جونز أمامنا وقد تعرى من ملابسه، وتورمت قدماه، وازداد تعبه وإحساسه بالجوع، وارتمى على الأرض وقد دنا منه الموت. ها هو يلفظ أنفاسه في الوقت الذي يصل فيه سميزرز والزنوج، بعد أن قضوا يومهم في إعداد رصاصات فضية لقتله.
إن رعب جونز كامن في نفسه، ولم تعد تلك النفس قادرة على مواجهة فيض الجرائم والظلم الذي مارسته، ولذلك كانت فريسة سهلة لأول بواعث الواقع ومثيراته ومؤثراته، فتعرت وبدت ضعيفة على حقيقتها. وقد لاحظنا أدوات أونيل ووسائله لإحداث ذلك التأثير، ومدى ارتباط الحوداث بمكنونات العقل الباطن، ومكونات الضمير.