[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]

سعود بن علي الحارثي
[email protected]

الرابع عشر: ما خطه القلم عن مجلس عماني
في هذا المجلس الواسع ـ السبلة ـ ذا الإرث التاريخي الموغل في صفحات الماضي، والذي تشع من موقعه في مركز القرية وتصميمه البديع وهندسته المعمارية ووثائقه المحفوظة في خزانته ألوان شتى تمتزج فيها الذكريات والقصص والأحداث بعيدها وقريبها لتعبر في دلالاتها ومعانيها ومضمونها عن الكرم والشجاعة والتضحيات، وفي تجسيد حقيقي للقيم الإنسانية الرفيعة، المحبة والأصالة والروح المتفائلة والتفاني والعشق الخالد للأرض التي تحكي حاراتها القديمة ومنازلها الفاخرة وأزقتها المتداخلة وقلاعها الشامخة وإرثها الحضاري المتنوع ونخيلها الباسقة ومياه أفلاجها المتدفقة ليلا ونهارا بماء الحياة، دلائل وشواهد لهذا العشق مضرب المثل يرويها الكبار للصغار جيلا بعد جيل ليتشربوا من معين تلك المثل ومن مياهها النقية ما يروي ضمأهم ويغذي أرواحهم، ويحفزهم على التفاعل والعمل والإبداع، ولكي تبقى تلك القيم والمثل والأعراف والتقاليد الجميلة محفوظة في ذاكرة الأجيال كضمانة تحرص عليها الأمم لحفظ تاريخها وثقافتها من الاندثار والنسيان وتمكنها من الانطلاقة بعزم واقتدار لصناعة المستقبل ... (في هذا المجلس الواسع) يجتمع أبناء القرية كبارها وصغارها أثرياءها وفقراءها في مناسباتهم السعيدة والحزينة، الأعياد والأعراس ومراسم العزاء وغيرها، كما جرت عليه عادة العمانيين في قراهم ومناطق سكناهم أن يكون لهم مجلس عام يعرفه ويشارك في بنائه الكل، يجمعهم في السراء والضراء، فيه يتحاورون في كل شأن من شؤون حياتهم المرتبطة بمصالح معيشتهم، ومعالجة مشاكلهم والنظر في قضايا مجتمعهم الذي يمثلونه، وفيه أيضا يستقبلون ضيوفهم ويكرمونهم بما تيسر وفقا لطبيعة المناسبة وتوقيت الزيارة، المجلس تجدد بناؤه في تصميم هندسي يحكي التقاء الحاضر بالماضي، فأصابته يد التطوير والتحديث والتغيير، كما أصابت غيره من المرافق والمنشآت والتقاليد والعادات والممارسات، وللتطوير أحيانا ضريبة لا بد من أن يتحمل الماضي تبعاتها لما فيه من طمس وتشوهات وانقلاب لا تحمد عقباه ونتائجه أحيانا، ولما يخلفه من آثار لذلك الصراع المستمر بين الحاضر والماضي ممثلا في الأجيال المنتمية إلى كل منهما... (في هذا المجلس الواسـع) الذي غص بالناس في يوم عيد، وما أجمل الأعياد وأروع أيامها ولياليها لأنها تجمع كل الأحبة في هذا المكان، بأصحابه والمقيمين فيه والزائرين الذين قدموا من مختلف المدن والقرى والتجمعات السكانية القريبة والبعيدة، امتدادا لعرف قديم وعادات موغلة في الماضي وتقاليد وثقافة حفظها الناس وتوارثتها الأجيال جيلا بعد جيل تعبر عن عمق العلاقة والمودة والتلاحم وتقدير الناس لبعضهم البعض، وما تلك العبارات المحلاة والمغلفة بكل معاني الود والحميمية والألفة لحظة الالتقاء إلا دليل صادق على ذلك، طبعا مع اختلافات وتغييرات وتطورات في التفاصيل فرضتها ظروف الحياة وأنماطها التي اختلفت بشكل كبير عن السابق، ويعمل كبار السن ما وسعهم للمحافظة على قيم وأخلاق وارتباطات وعادات وعلاقات يقدسونها ويتمسكون بها، ويبذلون جهدهم لإلزام الأبناء بها ومرافقتهم في تلك الزيارات واستقبال الضيوف والتعرف عليهم والمشاركة في الحوار، والتعريف بالأنساب والأرحام ودرجات القرابة وعلاقات الآباء والأجداد بهم، وتاريخ هذه العلاقة وظروفها ومراحلها ومناطق سكناهم مع بعض القصص عن تاريخهم القديم، والتي لا تخلو أحيانا من الطرفة التي تعقبها ابتسامات صادقة. (في هذا المجلس الواسع) الذي امتلأ ببشر ينتمون إلى مشارب وتوجهات ثقافية ومستويات اجتماعية ومراحل زمنية متباينة وتمتزج دواخلهم بأحاسيس ومشاعر مختلفة، تعبر عن ذلك كله، ملامح الوجوه، خطوط الزمن ومساراته وتأثيراته على الجسد، كثافة اللحية ومدى الحرص على المحافظة عليها من الجز والحلق والتشذيب، التعليقات والملاحظات، ولذلك معانٍ ودلائل مرتبطة بالدين والقبلية والقيم الاجتماعية وتأثير الحداثة والقراءات والمطالعات والسفر وقياس مستوى علاقة الإنسان بها، صرامة الشخصية وقوتها أو ضعفها وهزالها، ثقافة المصافحة وللمصافحة أساليب وطرق تختلف من إنسان إلى آخر تفرضها المكانة الاجتماعية والوظيفية والتربية والثقافة وعوامل أخرى كثيرة منها ما هو موروث ومنها ما هو مكتسب، عبارات التحية والسلام والود كيف تبدو وما تحمله من دلائل ومعانٍ، وعن أي نوع من أنواع الرجال تفصح، نبرة الصوت ومدى اختلاف الإيقاع والأسلوب من شخص إلى آخر، مـدى الاهتمام بالمظهر والشكل والأناقة والعمل الجاد على إخفاء علامات الشيب وبياضه من عدمه، كل تلك العناصر وغيرها تعطي للمتفحص والمتطلع قراءات ومؤشرات تصنف كل فرد ضمن فئته، منهم من يتمتع بحس فكاهي وأحاديث تطرب السامع وقدرة فذة على إدارة الحوار ومد خيط الحديث والانتقال من موضوع إلى آخر وبداهة في الردود المقنعة أو المسكتة، ومنهم الصارم في شخصيته المتزن في جلسته وحركته وملبسه الجاد في حديثه وطرحه الوقور في هيئته المهيب في مقدمه، وهو من يفرض مكانته وموقعه في المجلس وعلى الآخرين أن يضعوا بينه وبينهم مسافات يحرصون كل الحرص على أن لا يتجاوزوها في حديثهم ومزاحهم معه تقديرا واحتراما له، ومنهم من لا تعبر ملامحه العامة عن شيء يمكن للآخر قراءته أو فهمه، أو بالأصح يصعب تصنيفه، أو أنه يتعمد بأن لا يعطي للآخرين فرصة لقراءة شخصيته، سمته الصمت والهدوء يستدرجه المستدرجون بشتى الوسائل والطرق فلا يخرجون من جهدهم إلا بالمزيد من الغموض واللبس عن شخصية يبتغون فك طلاسمها وفتح مغالقها فلا يفلحون في ذلك، ومنهم من لا يعنيه أو لا يكترث بأي شيء في ذلك المجلس، كل الألوان لديه تتحد في لون واحد، يعيش في عالمه الخاص وفقا لفلسفة أو رؤية تعلمها من الحياة أو موقف من المواقف أو قراءة من القراءات أو حدث من الأحداث فارتضاها لنفسه واقتنع بفحواها فأراح واستراح (في هذا المجلس الواسع) الذي تعالت فيه أصوات المجموع في طرحهم العام، فامتزجت بهمسات القلة في حديثهم الخاص، كانت المعاني والمصطلحات ومضامين ذلك الطرح وتلك الأحاديث تصلنا مبتورة غير متواصلة مشوشة غير مفهومة أحيانا وواضحة معلومة في أوقات معينة، وفي كلتا الحالتين كنا ندرك تمام الإدراك بأنها مزيج من القصص والأخبار المتنوعة والمراجعات والمطالعات والمداولات الثنائية والرباعية والجمعية والأفكار والرؤى المتنوعة التي ترتبط بثقافات وتخصصات واهتمامات مشتركة، ويحمل بعضها الكثير من المعاني والقيمة بحيث إنها تشكل علما حقيقيا ودروسا نافعة، فالطرفة الأدبية، والمسألة النحوية أو الفقهية، والتحليل السياسي والاقتصادي، والرؤية الواقعية حول موضوع مطروح، والتداول في مصلحة عامة، تظل من أساسيات ما يتم الحديث بشأنه في هذا (المجلس الواسع) الذي تعلمنا منه الكثير وعبر مراحل مختلفة من الزمن .