[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
د.أحمد القديدي
كاتب تونسي

اللهم هب الشفاء والعافية للرئيس بوتفليقة. عادت بي الذاكرة لعشرين سنة مضت حين كان بوتفليقة بعيدا عن السلطة والتقيت به عديد المرات في الدوحة حين يحل ضيفا عزيزا على صديقنا المشترك الشيخ علي بن جاسم أل ثاني، ونستمع إلى درر من تحاليله للأوضاع الدولية والتي تأكد لنا اليوم عام 2017 أن أغلبها تحقق حين نرى العالم العربي يتفتت، ويتجزأ ليرسم الكبار لنا خريطة جديدة تخدم مصالحهم وتزيد في إخراجنا من دائرة التاريخ. وأذكر أنه أثناء غداء في بيت صديق عزيز مشترك هو أبو ناصر آل خليفة الذي كان سفيرا لدولة قطر في الجزائر أثرنا فرضية (سايكس ـ بيكو) جديدة يمهد لها أقطاب اليمين الأميركي والبريطاني والفرنسي والإسرائيلي بقصد تغيير جذري لخريطة ما سماه الغرب آنذاك بالشرق الأوسط المريض ويسمى بعد قرن بالشرق الأوسط الكبير. هذا التغيير الذي تحتمه انقلابات الموازين جذريا من 1916 (سنة سايكس ـ بيكو) إلى 2017 مرحلة تصادم قوى الغرب بطموحات صينية وروسية صاعدة وتشكلات أوروبية متنامية. وكان منطلق حديثنا آنذاك الكتاب الأكثر إثارة للجدل والأشهر في نهاية القرن الماضي وهو الكتاب الذي توسع في بحث نشره (صامويل هنتنجتون) في مجلة (الشؤون الخارجية) بعنوان لا يزال يحرك الأقلام إلى اليوم وهو (صدام الحضارات). وأذكر أن بوتفليقة قصد إثارة التفكير والحيرة لدى أصدقائنا الخليجيين وكانوا من بين نخبة الفكر والثقافة حين ألقى بحجر مثير في بركة الاطمئنان قائلا: "من يدري إذا ما كانت نوايا مخططي الغرب اليوم تهدف في مستقبل قادم ومجهول إلى تسهيل هيمنة الهند وإيران على الخليج العربي تحت مظلة أميركية...!" وأمام دهشة مضيفينا الكرماء راح المتحدث يحلل أسرار التحولات الكبرى التي يمكن أن تجعل هذا السيناريو قابلا للتنفيذ. فالغرب له مصالح دائمة، ولعل النفط يفقد تدريجيا قدرته الحيوية مع تصاعد استراتيجي وتكنولوجي للهند ذات المليار وربع ساكنا، وتغير سياسي كامل تسعى لتنفيذه قوى الغرب الراهنة في إيران مما يرشح الهند وبلاد فارس لاستعادة دورهما "التاريخي" الذي لا يزال حيا في أذهان الهنود والإيرانيين كالنار تحت الرماد على حساب المصالح العربية، وبالطبع إغتناما لحالة الوهن الراهنة للعرب بانتشار خمس حروب عنيفة في ليبيا وسوريا والعراق واليمن والسودان. وسيتلقف الغرب المسيحي هذا الوضع الجديد حتى لا ينقض المارد الصيني وحده على الإقليم بأدواته الاقتصادية والتجارية الصاعدة. في نفس هذا السياق لحديثنا في التسعينيات يتواصل الحديث اليوم وبأكثر حدة حول بوادر ساطعة لتقليص دور دول عربية كبرى (بينها مصر) في محيطها العربي لتمكين تركيا من القيام بمهمات تبدو اليوم مقبولة، بل ومطلوبة عربيا، ويتعاطف معها أغلب العرب، لكنها مهمات لن تتناقض مع التزامات أنقرة كعضو كامل في حلف شمال الأطلسي، ولا مع اعتراف تركيا بدولة إسرائيل وتعاونها التقليدي معها تجاريا وعسكريا؛ أي تصب في نهاية المطاف في خانة نفس قوى الغرب، ولا تخرج عن التصور الشامل لشرق أوسط جديد (أو كبير..) كما رسمه كتاب معروف لشيمون بيريز بنفس الاسم أو كتاب ثانٍ للوزير الإسرائيلي (ناتان شارانسكي) بعنوان (رسالة الديمقراطية في الشرق الأوسط) الذي كان كتاب بوش الابن المفضل أثناء حربيه على أفغانستان والعراق. وعودة إلى استشراف بوتفليقة الذي استفز بشكل لطيف أصدقاءنا الخليجيين الكرماء منذ عقدين، ما أزال معتقدا بأن الزمن القريب القادم يخبئ لنا نحن العرب مفاجآت من العيار الثقيل. التاريخ مليئ بالأمثلة الساطعة للاعتبار. فمن كان يصدق سنة 2000 بأن العراق سيحتل وبأن بغداد ستدك وبأن دولته ببعثها وجيشها وإدارتها ومتاحفها وجامعاتها ستدمر، وبأن العراق سيقسم فعليا إلى ما نرى اليوم من الطوائف والنحل؟ وأن رئيسه سوف يلقى ذلك المصير في بلد يباب؟ ومن كان يصدق سنة 2000 بأن اليمن الذي خرج من حربه معززا بوحدته سيعيش انشقاقا خطيرا بين شمال حوثي وجنوب انفصالي ووسط صنعاني؟ ومن كان يصدق سنة 2000 بأن فلسطين التي جنت بعض ثمار كفاحها الطويل سوف تقسم إلى ضفة وقطاع؟ ومن كان يصدق سنة 2000 بأن السودان الذي وقع رئيسه البشير مع جون قرنق عهد الأمان والوحدة سيكون اليوم فريسة لما يسمى المجتمع الدولي فتسود الفوضى ويموت قرنق في حادث طائرة، وينفصل الجنوب رسميا ويهدد إقليم دارفور بالانفصال، ويبقى الرئيس البشير مطلوبا لما يسمى عدالة دولية؟ ومن ومن ومن.....؟ إن كل من يتعمق في التاريخ يدرك بأن ما يعتبره المرء واقعا أبديا ما هو سوى لحظة عابرة من لحظات الحضارة البشرية، وما يعتقده المرء ثابتا ما هو سوى متحول باستمرار. تلك هي سنة التدافع البشري التي لا مرد لها. وأفضل الناس من اعتبر بدروس الحضارة وتقلباتها العجيبة فاستعد للتحولات وأمن شرورها. وانظر حولك أيها القارئ الكريم لترى انهيار الإمبراطوريات التقليدية بسرعة وصعود إمبراطريات جديدة بأكثر سرعة في ظرف جيل واحد. والمؤسف أن العرب ظلوا معوقين لا يقرأون التاريخ ولا يستشرفون المستقبل، بينما الأمم من حولهم تجاوزت الطارئ من مشاكلها لتواجه الأهم.