[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
في العيدين الفطر والحج وقبل أيام من حلولهما المبارك تنشط الأسواق وترتفع وتيرة البيع والشراء وتتسارع الحركة في المدن والقرى وفي المنازل استعدادا وتجهيزا لمتطلبات العيد واحتياجاته من ملابس وبهارات ولحوم والحلوى العمانية، وهي فرصة للتجديد وإدخال البهجة والفرح إلى القلوب، وقد كانت السعادة تغمر النفوس قبل العيد بأيام..

سعود بن علي الحارثي [email protected]
الخامس عشر: المناسبات
لكل مجتمع عاداته وأعرافه وخصائصه التي تشكل جزءا من ثقافته فتعارف عليها أبناؤه وألفوها في حياتهم الخاصة والعامة، وللعمانيين أساليبهم وطرقهم وفنونهم وتقاليدهم التي أسسوها وطوروها على مدى قرون من الزمن في التعبير عن مناسباتهم والتعامل معها، أعياد إسلامية ومناسبات دينية ومجتمعية يشتركون في أزمانها وفي بعض من ممارساتها مع الشعوب والأقطار الإسلامية، شهر رمضان المبارك، العيدين الفطر والحج، الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، رأس السنة الهجرية، مناسبات ختم القرآن والحصاد، الختان، الأعراس.. إلى غير ذلك من المناسبات التي تتباين في صورها حتى على مستوى المنطقة، وهي من المظاهر المتجذرة في المجتمع العماني الدالة على التلاحم والتكاتف وعلى التواصل الفاعل، وعلى المشاركة الإيجابية في الأفراح والأحزان. وما زلت أستعيد تجربتي الأولى الإلزامية في صيام شهر رمضان المبارك بحكم العمر الذي تجاوز السابعة وكانت في أيام الصيف الحارقة، ولا أعلم في أي شهر كان ذلك؟ هل كان في مايو أم يونيو أم يوليو؟ ما أتذكره أن الحر كان شديدا، ورياح الغربي تشوي الوجـوه، وكان بعض أقراني ممن ذاقوا غمار التجربة في نفس العام يجهشون بالبكاء في الفترة التي تسبق أذان المغرب من شدة العطش والإعياء، فقد كانت خدمات الكهرباء لم تصل بعد إلى المنطقة والخدمات الترفيهية والخدمية من مكيفات وثلاجات وغيرها لم تكن موجودة، ومن أجل اقتناص غفوة قصيرة في وقت الظهيرة كان على الواحد منا أن يغمس لحافه الشفاف في ماء الفلج أو البئر البارد ويلتحفه للتخفيف من حدة الحر الشديد والشعور بالنسمات الباردة التي تحدث بفعل التقاء الهواء الحار ببرودة الماء لبعض من الوقت قبل أن يجف اللحاف الذي لا تطول رطوبته كثيرا، وفي تلك الأيام كانت بداية ظهور قوالب الثلج التي تحضر في سيارات نقل صغيرة من مصانع التبريد الخاصة بالأسماك وتباع قطعا صغيرة يشتريها الناس، وبرغم ما يعلق فيها من ذرات تراب وعوالق أخرى مختلفة وخلوها من أية مواصفات صحية فأدوات التقطيع من الحديد الصلب، والقوالب الثلجية توضع مباشرة في صندوق السيارة وتغطى باللحف إلا أنها تخفف من سخونة الماء المخصص للشرب فيلجأ إليها الناس اضطرارا إذ كانت الحاجة إليها شديدة والبدائل غير متوافرة، وكان شظف العيش وخشونة الحياة ظاهرة في كل وجه من وجوهها وملمح من ملامحها وأطباق الطعام محدودة للغاية لا تتجاوز في حدودها القصوى طبق الأرز والمرق، ويمكن أن تضاف إليهما الشوربة ولا تختلف وجبة السحور في شيء عن وجبة العشاء، أما الإفطار فكما هو معتاد حبات تمر وفنجان قهوة وماء، وكان إناء الماء كبيرا جدا كافيا لكي يطفئ ظمأ العطش الشديد، وتجربة الصوم في هذه الأجواء ليست بالأمر الهين، سنوات طويلة مرت على ذلك العهد شابتها تغيرات وتبدلات كبيرة في السلوك وفي الثقافة العامة وأسلوب الحياة ونمط العيش .. فلم تعد تجربة الصيام شاقة كما كانت بفضل خدمات الكهرباء ووسائل الترفيه المختلفة وتوفر أسباب الحياة السهلة وتطور وسائل النقل وتعدد أصناف الطعام التي وصلت درجة الإسراف والتبذير، ومثلما لهذا التبدل والتغيير من محاسن ومزايا على حياة الإنسان من حيث الراحة والتسهيل ورغد العيش فلها كذلك عيوب ومساوئ على صحة الإنسان وعلى التزاماته الدينية، وعلى رأسها فرض صيام شهر رمضان المبارك بسبب المغالاة في الترفيه والانغماس في التبذير، فقد انشغل المسلم عن ممارسة فروضه والتزاماته الدينية وعن التفكر في آيات الكون والحكم الإلهية بالسهر على البرامج والمسلسلات التلفزيونية، وأدمن الجلوس في الخيم الرمضانية وتمضية ساعات في اللهو واللعب وشرب الشيشة، وانصرف عن جوهر الأهداف الحقيقية من الصيام وضعفت مشاعره الإنسانية بآلام الآخر، وأسرف في استخدام الطعام لدرجة المباهاة .. إن رمضان شهر عبادة وروحانيات فيه تتربى النفس على الصبر والتسامح والصدق والصلاح، فلنكن على قدر المسؤولية في قراءة تلك الأهداف الكبيرة وفي تحقيقها على أرض الواقع. في العيدين الفطر والحج وقبل أيام من حلولهما المبارك تنشط الأسواق وترتفع وتيرة البيع والشراء وتتسارع الحركة في المدن والقرى وفي المنازل استعدادا وتجهيزا لمتطلبات العيد واحتياجاته من ملابس وبهارات ولحوم والحلوى العمانية، وهي فرصة للتجديد وإدخال البهجة والفرح إلى القلوب، وقد كانت السعادة تغمر النفوس قبل العيد بأيام، ففيها ما لا يجده الإنسان في غيرها مـن المتع، من أصناف الأكل والبرامج الترفيهية والفقرات والعناصر الغنائية التقليدية والهبطات المتواصلة التي تنتقل من مكان إلى آخر بما يعرض فيها من ألعاب للأطفال لا يجدونها إلا في هذه الأيام، ومكسرات وحلويات معدة محليا وأصناف الحلوى العمانية الصفراء والسوداء وغير ذلك الكثير، وتنظيم اللقاءات والزيارات المتواصلة، أما الصغار فلا تفارقهم الفرحة خلال تلك الأيام وهم يحصدون العيديات الزهيدة ويضعونها في أيدي الباعة مقابل ما يشترونه منهم، ويستمر العيد لعدة أيام تشهد زيارات ولقاءات حميمية، وفي عيد الأضحى تذبح الأضاحي ومن لحومها تصنع العديد من الأصناف المجففة والمملحة والمطبوخة بالخل والبهارات الكثيفة المشوية والمقلية، تطلق عليها أسماء معروفة عند العمانيين (التقلية)، وهي عبارة عن قطع من اللحم الخالص تطبخ وتملح وتحفظ في أوانٍ بعد تجفيفها، (القليووه)، وهي عبارة عن عظام الأضحية تحتفظ ببعض اللحم الملتصقة بها وكذلك تطبخ وتملح وتجفف ومن ثم تحفظ، هذا فضلا عن الشواء وله طقوسه وفنونه وفرحته عند إلقائه في حفرة الشواء وإغلاقها، وعند إخراجه كذلك في صباح اليوم التالي، والمشاكيك والخل .. وتحفظ تلك اللحوم وتستخدم لعدة أشهر، أما العرسية فتجمع أفراد الأسرة الكبيرة بعد صلاة الصبح مباشرة، ومن الصور الجميلة في الأعياد سباقات الخيل والإبل التي تأخذ أشكالا متنوعة تعبر عن الفروسية والرجولة والقدرة على التحكم في أشد مراحل السباق خطورة والتي تتطلب مهارات غير عادية، والفرق والفنون الشعبية التي تتواصل لعدة أيام ناشرة جميعها الفرح والبهجة بين أبناء المجتمع .
ومن الأعراف المرتبطة بمراسم العزاء جلوس أهل الميت في مكان معروف لاستقبال من يأتي من الناس لتأدية واجب التعزية وذلك بعد الانتهاء من التشييع والدفن، فالقيام بأداء واجب العزاء دون تكلف ودون تصنع عمل صالح ومحبب وسلوك يعبر عن التآلف والتآزر بين أفراد المجتمع، والمشاركة تخفف من مصاب المكلوم في أخ أو والد أو زوج أو ولد.. إنه تعبير عن نمط من العلاقات الاجتماعية والتعاون بين الأفراد في المناسبات، وفي عقيدتنا السمحة من حق المسلم على المسلم تشييع جنازته والصلاة عليه والمشاركة في دفنه وتعزية أهله من بعده ومواساتهم والوقوف معهم. وتتسم أجواء العزاء بالحزن والكآبة وإن تفاوتت مستويات هذا الحزن بحسب مكانة الفقيد، والطريقة التي توفي عليها، وسنوات العمر التي قضاها في الحياة ففقد الشاب أكثر إيلاما على النفس من الإنسان العجوز وينسحب ذلك على العالم مقابل الجاهل وموت الفجأة في حادث وغيره أشد وقعا مقارنة بمن يموت على فراشه. وفي هذا الإطار يقول الكاتب السوداني مكي الحاج عربي في كتابه (سيل من شعاب العشق) يصف حال العماني مع حلول المصيبة وقدرته على التجلد والصبر ورباطة جأشه ورضاه بالقضاء والقدر: (أما العماني، فإنه يتلقى خبر الموت بعبارة (ما شاء الله) في هدوء وسكينة ورضا وصبر، ولا غرابة في أن ينفعل الإنسان للحظات قليلة إذا ما أصيب بصدمة مفاجئة، أو سمع خبرا مفجعا.. فهذه طبيعة البشر؟ أما أن يصاب بالشلل ويفقد السيطرة على نفسه ويحول الموقف إلى دراما مأساوية صاخبة، فهذا أمر يندر أن تشاهده لدى العمانيين...) (من أين اكتسب العمانيون هذا السلوك والمزاج المعتدل، الخالي من الانفعال السريع؟ هل من الصحراء، أشجار النخيل، الغاف، السمر، اللبان، الجبال، الوديان، الأفلاج، البحر، البيئة المتنوعة؟ ..) يواصل الكاتب طرح عشرات الأسئلة باحثا عن إجابات تشفي رغبته في التعرف على هذه الشخصية في تعاطيها مع ظروف استثنائية وهو عكس ما يحدث مع السوداني، والكثير ممن يعيشون في عمان يطرحون ذات الملاحظة التي يطرحها الكاتب .
لقد اتصفت تلك المناسبات بالبساطة واتسمت بالعفوية وحرص المشاركون والمؤازرون والمواصلون على تحقيق الهدف في سموه ونبله خاليا من الغايات والأهداف الأخرى، فمن بين ما تعارف عليه الناس أن الجزء يقوم مقام الكل والفرد مقام العدد في تأدية واجب العزاء، فالأخ ينوب عن إخوته وأبناء عمومته والفرد عن جماعته وعن أبناء قريته، وكانت مجالس العزاء تتسم بأجواء من الوقار والهيبة والتفكر في واقع الحياة والحرص على مشاعر المصابين بفقيدهم، ولا تخلو من التباحث في مسألة علمية أو نحوية أو فقهية أو مصلحة عامة .. كلما أمكنت الفرصة. وكانت مجالس العزاء تستقبل معزين يصلون في مجموعات صغيرة وعلى فترات ليست بالقصيرة بحكم وسائل النقل التقليدية المعروفة ومشقة الطريق التي يحتاج المسافر عبرها إلى ساعات طويلة قد تصل إلى أيام بالنسبة للمناطق البعيدة، وكان اعتماد الخبر يقوم على الرسائل المكتوبة أو السماع المباشر الذي يستغرق فترة طويلة قبل انتشاره يكون مجلس العزاء قد أقفل وانتهت مراسمه، ومن المتعارف عليه كذلك أن المعزين الملازمين لمجلس العزاء يكتفون بمصافحة أهل المصاب وتعزيتهم لمرة واحدة، فلا يستدعي قدومهم الثاني أو الثالث إلى مجلس العزاء تجديد المصافحة التي تشكل جهدا على المرابطين في العزاء خاصة كبار السن منهم، إذ إن المصافحة تستدعي نهوض كل من في المجلس بحسب ما هو متعارف عليه تقليدا، والعادة المتعارف عليها كذلك أن فترة العزاء الرسمية تستمر لمدة ثلاثة أيام، يقفل بعدها مجلس العزاء ففي الحديث النبوي الشريف (لا عزاء بعد ثلاث). وقد أدت ثورة الاتصالات وتطور وسائل النقل وإنشاء شبكة من الطرق التي ربطت بين مختلف المناطق والقرى إلى انتشار خبر الوفاة بسرعة عالية أدى إلى تهافت المعزين إلى مجالس العزاء بأعداد كبيرة مما شكل ضغطا وزحمة على هذه المجالس وإرهاقا لأصحاب العزاء المرابطين في المجلس، وأسفر هذا التوجه النشط عن حوادث مؤسفة خاصة بالنسبة للمراسم المقامة بعيدا عـن محافظة مسقط، كما أن الترابط الوثيق الذي جمع أفراد المجتمع في أكثر من صعيد منها: زمالة الوظيفة والجوار والسفر والتعليم.. بعيدا عن محيط العائلة غلب الشعور الفردي في التمثيل فباتت النظرة الغالبة إلى مشاركة الفرد في تأدية واجب العزاء قاصرة على شخصه، وكانت للحياة وما استجد عليها من تحديث وتطوير ونهضة تأثيرا معاكسا على سلوكيات الفرد التي لم تسلم من العلل ونظرته التي ارتبطت بالمصالح والولع بالمظاهر كما نراها ماثلة أمام أبصارنا من حيث التسويق الإعلامي للعزاء بهدف استقبال أكبر عدد من المعزين والإعلان عن الشخصيات التي شاركت في العزاء في ديباجة الشكر والتي أصبحت من العادات المألوفة في وسائل الإعلام، وتضمين الحديث المصالح والصفقات والمشاريع وغيرها خلال التشييع وفي مجلس العزاء وتوظيف الأجهزة النقالة في قتل الوقت والسأم والملل الذي ينتاب البعض في المجلس دون مراعاة لمشاعر الحزن والتفكر في الموقف بصوره ومشاهده المعبرة عن حقيقة الإنسان، كل ذلك كان له أثره البالغ على طابع الحياة الاجتماعية ومنها مراسم العزاء التي فقدت بعضا من أهدافها وسماتها الجميلة وفقدت طابعها العفوي شأنها شأن الكثير من المناسبات التي لم يعد بريقها صافيا مشعا كما كانت. أيام الحصاد والأعراس، ختان طفل في القرية، ختم القرآن، الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وقراءة سيرته الشريفة بحضور أعداد كبيرة من الناس وغيرها من المناسبات جميعها شكلت لوحة فنية جميلة وعبرت عن التعاون والتلاحم والمشاركات الإيجابية والشعور بالحميمية والارتياح، وأشاعت أجواء الألفة ونثرت الفرح في القرى والمدن والواحات العمانية، والعديد من تلك المناسبات أشارت لها العناوين السابقة، وسوف تستعرضها عناوين قادمة بمشيئة الله.