قراءة ـ خميس السلطي :
ظلال العزلة، بوح سردي متقن وكأنما لوحات فنية خرجت بإشراقه امتزاج الألوان لتشكل حياة تبعث الحياة، وهنا نتحدث عن حياة الكتابة، وكتابة حياة، حيث تطل الروائية والقاصة عزيزة الطائية بثوب القصص القصيرة، حيث ظلال عزلتها، وحيدة تبتعد عن الصخب وتقترب منه شيئا فشيئا، أكثر من 75 نصا قصصيا، تقترب من خلالها إلى حيثيات الحياة بمختلف تناقضاتها، ولو جئنا لنتحدث بنوع من الشغف فهي تشكل يوميات سردية بها إسقاطات متعددة، فعناوين القصص القصيرة التي تحويها هذه المجموعة القصصية لا تنسلخ أبدا من حياتنا فهي متلاصقة بها، كما إنها دائما ما تأتي بأحادية المفردة في صور عناوينها، (فراق، كلمات، ضياع، شفاء، تسلل، لوحة، ريشة، صمت، نهاية، قصيدة، قرار، حلم، ارتباك، حقيقة، ..ألخ). إذن هنا سرد مقتضب قصير وعميق في الوقت ذاته، وهذا أمر ليس بالغريب على الكاتبة فهي تمتلك تاريخا جميلا في سرد مواقف الحياة ضمن إطار فني أدبي. هنا ومن خلال الأسطر المقبلة سنضع تصورا لما جاء في هذا السرد القصصي.. نحاول أن نكون أكثر قربا حيث حيثيات المكان والزمان، فالكاتبة تحاول أن تكرس صورا للظل فتنطلق حيث البداية معه، تأخذنا حيث الصحراء، فتدهشنا بسلوكيات التناقض حيث الغاف والبيلسان والشمس والجليد الذي يتشكل فجأة من نار!!. هنا نقف لنتأمل خصوصية هذا الظل يصوّر الحالة الذهنية السردية التي تمر بها الكاتبة، محاولة إشعال روح الترقب للآتي من عناوين أخرى، فننطلق أيضا حيث "مرآة" وهو عنوان لحديث داخلي ، في هذه القصة القصيرة، تكاد تروي لنا حكايات اليأس التي دائما ما تأتي بالخيبات، ولكن الحياة حكمة وهذا ما نسبره هنا، في قصة "بقايا" تلتقط الكاتبة صورة رائعة للحياة، فتخبرنا عن حديث الحمامات الرابضة على سور منزلها، وتقول رفرفت بعيدا، حتى أكلها السحاب، يبدو لي وكأن الإسقاط هنا لم يأت من فراغ هنا، فاللحظة التأملية التي وقفت من أجلها الكاتبة حين رأت تلك الحمامات تلحق نحو السحاب، هي لحظة غير عادية، بكل تأكيد هي لحظة غارقة في التأمل والتي جاءت بدقة التصوير، وإيجاد مفردات نابضة بالحياة تؤثث لبقايا يوم جميل.
في نص "رحيل" هنا لوحة لمشهد رغم ضيق محيطه الزمني، إلا أن هناك اتساعا مبهرا، فنجد إيقاد شعلة لحياة منتظرة، ربما تكون الأجمل مما سبق، ولكن شيئا ما وقع فجأة، وكأن الحياة بدأت تقصر بفعل خالقها، حيث الحقيقة التي نحن بصددها ومن ثم الرحيل الحتمي. المتتبع لقصص مجموعة "ظلال العزلة" يشاهد اتفاق الكاتبة مع فكر بوحها، في نقل مشاهد هذه القصص بصوت الأنثى، وهذا أمر رائع يوصلنا بأن هذه القصص تشكل بوحا "أنثويا خالصا"، ففي قصة "انتظار" تقف بنا لأن نعيش لحظات أنثى يائسة موجوعة بفعل العاطفة والزمن معا، فهنا تحكي حكايات اللواتي دائما ما يتبعنا ظل رجل هارب لا حقيقة له، وقد تكون الأمثلة في الحياة كثيرة، تصوّر أن تبقى أنثى تنتظر صباحات لغد مشرق، ولكن شيئا ما يعتم تلك الصباحات رغم الأمل، ولكن حيث ينكسر الأمل يجب أن نحطم كل شيء في دواخلنا دعانا لأن نقف منتظرين له.
في قصة "كلمات" يظهر لنا قلق من المقبل للحياة، فهناك محاولة للهروب من الكتابة كالذي يهرب من ذاته، من العتمة، من الضجر والتبرم، لا ندري لماذا اليأس يخيّم بسطوة بالغة هنا، لا ندري لماذا لا نحب أن نكتب على ورق الحياة، هل لأن الحبر بحق في المستقبل سيكون جرسا يجثو بتلك السطوة فوق صدورنا؟!، ربما، هي إسقاطات بالغة في الدقة نراها كما تُروى حكايات لا يمكن التخلص من وقائعها، فالحياة بلا شك مزعجة بتفاصيلها ودائما ما يدعونا لأن نقاوم أن تكون هناك حتمية لهذه التفاصيل. في قصة "جرح" تواصل الكاتبة سرد خيبات حياة أنثى، وهنا نقف برهة لنتعلم أن تلك الظلال التي دائما ما تدعونا للعزلة، هي أتت مُشكلةً لنتاج حياة مؤلمة، تكاد لا تنتهي تلك الخيبات في مجمل تفاصيل هذه الظلال، رغم دهشة روح الكتابة وجماليات المكان في بعض الصور التي تشكل أحرف الإبداع، إلا انها تأتي مخضبة بالألم والدمع والدم، وفي أحيان كثيرة. ولو نأتي من البدايات حيث غلاف المجموعة، نرى أن هناك محاولة للخروج أو الانزلاق قليلا إلى عالم أكثر رأفة ونظارة، بعيدا عن التأزم والانكسارات.
يبقى أن نقول أن المجموعة القصصية "ظلال العزلة" الصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع والطباعة، هي أحدث أعمال الروائية والأديبة عزيزة الطائية، والتي تشكل مساحة من الحضور الأدبي، إضافة إلى رصيد أدبي يضاف إلى المكتبة العمانية القصصية، كما سبق لها ومنذ القريب أن صدر لها رواية "أرض الغياب" والتي جسدت حضورا ذاتيا أيضا لها.
المجموعة القصصية "ظلال العزلة" تأخذنا إلى منحنى آخر حيث الشعر وهدوء الكلمة في بعض المواقف، فتسجل الطائية تلك الإسقاطات الشعرية بعمق وارف، ففي قصة "سجين" نقف برهة لتنفس شعرا عندما تقول : أرضية السجن حفر نتنة، والنوافذ حائط نائم، لم أكن أدرك أن تلك الحفر كانت قبورا على شكل ثقوب كالمسامات التي تحفرها حبوب حب الشباب. لمحته يقف مع ثلة من الغائرين وهم في طريقهم إلى غرفة الحقيق. كان بياض بؤبؤ العين يلمع في قتامة ظلام تلك الحفر. تأكدت حينها أنهم بشر". هنا مثال صريح على أن المجموعة القصصية تخضبت بسلوك الشعر، وهذا ما أرادته الطائية منذ الانطلاقة حيث العنوان، الذي تم اختياره بعناية فائقة حسب تصوري الشخصي، مرورا بإهدائها الذي جاء مباشرة والذي تصوّره "كانوا هناك يلوحون بأيديهم .. ولا يزالون ينسجون الحلم عند مرافئ الضياع، يرتبون تفاصيلنا التي تسكن الوجود .. يطرزون الراية لشموخ باهر .. ينتظرون إشارة مضيئة باتجاه النبع .. يصلوّن لأجلنا بخشوع".
ليس هذا إلا حديث الشعر بحق، فالصور المتحركة التي يتتبعها قارئ هذه المجموعة، يدرك تاما أنها نسجت بألوان من شعر تعددت رسائلها، انطباعات رغم اختلاف توجهها، إلا أنها متناسقة في البناء والإخراج، وكأننا أمام مشهد سينمائي ينقلنا إلى البعيد حيث المكان، الهدوء، الرغبة، والانكسار، والعنف أحيانا.
ثمة أمر آخر في المجموعة القصصية "ظلال العزلة" وهذا ما أتى في مجملها تقريبا، بأن الطائية أخذت من اللامكان حقيقة الحضور، فالتسميات التي ترشدنا إلى الأمكنة المادية تبدو غائبة المظهر، فلا توجد خريطة تشكل أرضية المكان أو الزمان المرئي تركز عليها الأحداث، وإنما كتب الأمر وكأن خيال أطلق ليحلق في السماء حيث التأمل الذي يأخذنا للبعيد، والتأويلات التي دائما ما نضعها للاحتمالات والنتائج المتعددة.
على سبيل القول في نص ممثل تقول الطائية: "يصعد على خشبة المسرح يختال في جناح الطاووس، وباقة الزهو. القرود تصفق له وهي نائمة، والببغاوات تردد وهي غائبة، وعندما انتهى العرض قاموا بصفعه، وألبسوه الشوك." هنا نبقى لنأول ما يجري مشاهد متعددة في هذا النص القصصي الشعري، فلا يمكننا أن نمسك بخيط لنقف على حياة مشاهدة أو ملموسة، وإنما يبقى للتأويل منفذ متسع، يبقى لنا أن نحدث الكثير من الروايات والحكايات لنخرج بنهاية تقنعنا كقراء، وهذا أمر جلي وفريد، جميل أن تمتلك نهايات الأشياء بينما تكون البداية لمن يصون تلك الأحداث، والأجمل أن يكون تأويلك على قدر حاجتك من جرعة الإبداع ذاتها، فأنت لست ملزما بأن يُفسر لك كيفما يريد الكاتب وإنك تبقى شريكا في اتخاذ قرار الحل وإظهار النتائج، وهذا ما أبدته الطائية في مجمل قصصها في هذه المجموعة، فهي بلا شك أشركت القارئ بأن يختار نهاياته بنفسه، كما لو أعطيك أكسجين الكتابة وأن تصبح كاتبا آخر لقصة تتقاسم تفاصيلها مع الكاتب.
قصص كثيرة ضمتها "ظلال العزلة" مبهرة ومقلقة، ومحدثة لحياة بها من الأمل الكثير، حتى نهاية الظل وكما أرادته الطائية في نهاية مطاف رحلتها القصصية، يبقى هناك أمل عندما تقول: ألم تزل أرواحنا مولعة بالحب والحياة، وقلوبنا تخفق بتدفق لا نهائي، وأيادينا تعشق المرح اللامحدود، نحرس لآلي النجوم، ليبقى عشقا أبديا، وعشنا سرمديا .. فهل يزهر الوقت بالثمر؟؟!
وتسرد : لقد حلمت بشجرة وارفة تبسط ظلها، وكأن المياه التي ادخرتها الأرض في جوفها السحيق سقتها ليبتهج أديم الأرض، فأوى إليها الجمل الشريد، ظلت الطيور تبني أعشاشها على أغصانها، حتى أسبغت سحابة السماء ديمتها فسكن رغاء الحنين.. انتهت. جميل هذا التفاؤل فللظل حضور حقيقي هذه المرة ولكن يبقى خيط تأويل القارئ حاضرا كما لو كان الإصرار متصلا ليكون شريكا في تأويل النهايات أيضا.