حفلت اللغة العربية بالدلالات الاجتماعية الكثيرة التي تنمّ على التعاون والتماسك وعلى الحركة المتمثّلة بالرَّحيل والكَرِّ والفَرّ.
وقد حفظت اللغة لنا من خلال ألفاظها صورة دقيقة القسمات والملامح لحالة المجتمع العربي القديم والجماعات فيه. وعندما تغيّرت صورة ذلك المجتمع بالتطوّر والتحضّر كانت استجابة اللغة للإيفاء بحاجة الحضارة من الألفاظ استجابة تُفصِحُ عن غِنى واتِّساع، وذلك بتوظيف المعاني القديمة في صالح الحداثة والتطوّر مستخلصة منها الصفة المناسبة بالمجاز ، والاشتقاق والتوليد. فمن ذلك مثلا لفظة ( الأمَّة ) ، وهي تدلّ لفظاً على الإفراد وفي المعنى جمع ، أي هي الجماعة التي تَؤُمّ مكاناً واحداً ، أو تَأْتَمُّ بقيادة واحدة . وفي العصر الحديث اختلفت صورة الأمَّة وتغيّر حجمها ووضعها عمّا كانت عليه في الماضي ، لكنَّ اللفظة لغةً واشتقاقاً ودلالةً لم تتغيّر بمثل هذا المقدار.
ولعلّ أبرز الدلائل على ما ذكرته لك من صورة الاجتماع والتفرّق الواضحة للمجتمع العربي قول العالم الجليل الخليل بن أحمد الفراهيدي على لفظة (الشَّعْب): (هذا من عجائب الكلام و وسع اللغة العربية أن يكون الشَّعْب تفرُّقاً ، ويكون اجتماعاً ، وقد نطق به الشعر ). وقال أبوبكر محمد بن الحسن بن دريد في معجمه جمهرة اللغة: (الشَّعْب: الافتراق ، والشَّعْب: الاجتماع ). ففي معنى الافتراق قالوا: الشَّعْب هو الجماعة التي تتّخذ لها شُعبةً واحدة من الطريق ، والشَّعْب أيضاً: ما تشعَّب من قبائل العرب والعَجَم ، والجمع شُعُوب قال تعالى في سورة الحجرات الآية الثالثة عشرة:  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير 
وعلى ذلك يبدو أنّ الاستخدام السليم لغوياً هو قولنا: الشَّعْب العربيّ ، وهو استعمال قلَّما نسمعه اليوم في حين يكثر القول: الشعوب العربية ، وقد ذكرت لك قبل قليل أنّ الشعوب وَفْق ما جاء في المعاجم بهذه الدلالة : ما تشعَّب من قبائل العرب والعجم. ثمّ إنّ في قولنا : الشَّعْب العربيّ ، تظهر صورة التماسك والوحدة والتجانس . أما المعنى الآخر للفظة فهو الملاءمة ، ومنه قولهم : شَعَبَ الصَّدْعَ إذا لاءمه.
ومن هذا اللون من الألفاظ (الطَّائفة) ويدلّ أصلها على دوران الشيء على الشيء وأنْ يَحُفَّ به ، ثم يُحمل عليه ، يقال: طاف بالبيت يطوف طَوْفاً وطَوَافاً وطَوَفَاناً. وأما الطَّائفة من الناس فكأنها جماعة تطيف معاً. و(القَبِيلة) من ذلك: وهي الجماعة التي تسير إلى قِبْلة مشتركة. و(الفَصِيلة) وهي الجماعة التي تنفصل أو تفارق وتتميّز من غيرها ثم تمضي في طريق واحد.
ومنها اشتق لفظ الفيصل للسيف ، وللقاضي لإناطة الفصل في الأمور بهما أما الفصيلة في أيامنا فتكاد تكون وقفاً على التسمية العسكرية لجماعة من الجنود معروفة. ثم (الفئة) وهي الجماعة التي تفيء إلى ظلّ واحد في الأصل. و(الجِيل) وكانت تعني التجمّع والجماعة ، قالوا: والجِيل هذه الأمّة ، ثم آلت اللفظة إلى أن تكون في دلالتها سمة الحداثة كقولهم اليوم: هذا جِيل النهضة ، على الفتيان والجِيل الصّاعد بعد تولي جلالة السلطان قابوس ـ حفظه الله ورعاه ـ مقاليد الحكم ...ومن ذلك (القَوْم) الذين يقومون قومة واحدة ، ولقد وفق المحدثون في إطلاق لفظة القَومِيَّة مشتقة منها لما فيها من دلالة التّماسك والقوّة والعموم. ومنها (النَّفَر) وهم الذين ينفرون معاً للقتال وغيره.


د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]