نُعرج اليوم على واحدة من التجارب الفنية ذات الأداء الرائع والمبهر المُحمل بالجُهد الفني والفكري في آن واحد ، فنانةٌ تتميز بِخُصلة الصبر والاهتمام بأدق التفاصيل في أعمالها ولا ترضى أن يظهر نتاجها للمتلقين إلا وقد استكمل أركانه الفنية وتغذى بين الغفوة والسهر في صلب روحها ومَهمَهة سكناتها وحركاتها، هي الفنانة الشابة ريا المنجية التي سحرها الجمال فأوقض أحاسيسها الفنية الخصبة ، وفجر موهبها الدفينة ، وباتت ترتع مُغنيةً وراقصة بصُحبة ألوانها في بستان الفن وحدائقه الوارفة ، الفن لديها تكميل للوجود ، ومسلك تنقلنا من خلاله إلى الواقع ثم إلى ما هو أكمل منه ، كل صورة جميلة ترسمها يكمن وراءها جمال أكمل ، وبُعدٌ أعمق للمعاني التي تتداعى في الذهن محركة المخيلة ومحررة الإرادة لتسبح في عالم اللوحة إلى آفاق بعيدة تثير فينا الثقة بملكة ما فوق الحس في ديناميكية شكلية ولونية متناسقة.
نستعرض اليوم أحد أعمال هذه الفنانة لنتأمل جمالياته ونركب أمواج بحره ونشاهد انعكاساته المتبدلة والمتطورة التي يرسلها إلى أبصارنا وفكرنا بكل حيوية وألق محققين معها لذواتنا المتعة الجمالية الراقية المستمدة من وهج أعمالها ، فهذا العمل الماثل أمامنا يحمل في كنفه البساطة في الألوان والعناصر الشكلية ، وبرغم ذلك يلتف حوله معنىً يحمل إرهاصات نفسية وفلسفية دفينة ، شخص قاعد وقد لملم جسده واحتواه وأكب رأسه على ركبته ولف كل ذلك بقطعة قماش حريرية بيضاء متقوقعاً مع ذاته في مكان موحش حالك بالسواد ، اللهم من ذلك النور الذي ما زال عالقاً على أرض وجدران محيطه الآتي من نصاعة لون رداءه الملفوف على جسده ، وقد أعطتنا الفنانة إشارة أخرى لتضيف عنصراً تعبيرياً أخر ينسل إلى دواخلنا نسجته من ذات اللفيف الحريري الذي اتخذه هذا الآدمي وشاحاً ليندثر داخله ، وهو رمز الاستفهام الكبير الذي قد يفسر أو لا يفسر السبب الذي جعله ينكب على نفسه بهذه الحالة المحزنة ، وقد استخرجتها الفنانة من ذات القماش الملفوف عليه ، مدللة على أن حزنه له مبررات وأسباب ، ويظهر لي أن شخصاً ما أوجع روحه وقسى عليها ، وفعل فيها ما فعل من الأهاويل التي نالت من مشاعره الإنسانية ، وأسقطها في الهموم والمآسي ، ويطلب منه تفسيراً منطقياً على صنيعه ذاك ، لعله يتمكن بعدها من الخروج من هذه العباءة التي توشحها خافياً حُزنه الدفين بداخلها بعيداً حيث العتمة الموحشة التي تسرق الأماني الجميلة والسعادة العذبة من النفس البشرية المحتاجة إلى مسلك مُهذب وإنسانية عالية في التعامل معها ، وإلا لأوقعتها النفوس المتعاظمة والمتغطرسة جسداً قتيلاً يئن تحت وطأة الألم والمعاناة، مسببة حالة سيئة من الإضطرابات في الفكر والمزاج والسلوك، وتؤثر على جميل عطاءه لخدمة نفسه وأُمته، وكثير ما شاهدنا نفوس هجرت العالم بأسره وتقوقعت على ذاتها ودثرت نفسها بعيداً عن الأنظار بسبب سلوك شخص جاهل لمعنى الإنسانية وحقيقة المشاعر.
وفي زاوية الإجادة الفنية يُشرق لنا حسن الأداء الفني والدقة التي تمتلكها ريا في تنفيذ العمل في مجمل تفاصيله وربطها الموفق بين عناصره وأجزائه وقدرتها على صياغة المعنى بإيقاع الألوان وهذا الأمر أضفى بُعداً جمالياً وإبهاراً حقيقياً لدى المشاهد الذي تلذذ بين جمال الفكرة وروعة التنفيذ ، وهذا ينُم عن موهبة حقيقية تمتلكها ريا المنجية ، ويشهد لها كل المتتبعين لأعمالها التي أنجزتها خلال مسيرتها الفنية العامرة بالعطاء برغم صغر سنها. إلا أن الفن هنا لا يعترف بالعمر كمعيار للإبداع لأنه شعور داخلي مقرون بالمعرفة والتفكير الهادئ فما يرسمه الفنان ويتفنن بتلوينه يجب أن يكون صورة لعواطفه وميوله ، وهو يرى بعيني نفسه الأشياء التي يراها كل الناس عادية إلا أنه يتناولها ويمزجها بشعوره ومعرفته ثم يقدمها للناس شراباً سائغاً لذة للشاربين .

عبدالكريم الميمني
[email protected]