[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]

كنت مشدودا إلى التلفاز وهو يعرض برنامجا عن عدد من السوريين وعذابات سيرهم في أوروبا، بين حدود بعضها، من أجل الوصول إلى ألمانيا كهدف نهائي. البرنامج لا يروي سيرة مجموعة من السوريين، بل عينة عنهم، بكل أثقالهم وأطفالهم وحتى الولادات الجديدة. كانت أرجلهم تغطس في وحل الحدود، كل خطوة لها إيقاع إحساس داخلي بأنهم أخطأوا الاختيار وأن العالم صادم وأنهم مصدومون به لقلة رحمته أو ندرتها أو حتى غيابها نهائيا.
ليس من مكان في العالم بديل عن الوطن، فكيف حين يكون سوريا، ومن ثم دمشق، العاصمة الأولى في التاريخ التي اتخذت لقب عاصمة. هذه العينة تحدث أفرادها بحسرة عن وطن تركوه وراءهم، عن كذبة كبرى اسمها الإنسانية، عن حكم الرئيس بشار الأسد الذي اكتشفوا جمالياته في تلك المسيرة الصعبة، حيث المطر يتساقط، والأطفال يبكون، والنسوة لم يخرجن بعد من فضاء وطن أحبوه ولن يجدوا أجمل منه وأكثر رحمة، والرجال يكتشفون أنهم أخطأوا العنوان والمقصد، لقد تحولت المسيرة الموحلة الماطرة إلى مشهد أمام الأوروبي الذي خذلهم في لحظة مصاعبهم.
في هذا العالم لا أحد يرحم؛ لأن المهم بالنسبة إليه أنه يعيش بسلام، فلا تعنيه تلك المشاهد المؤثرة وتلك العذابات لشعب يبحث عن ضالته، فيظن أنها خارج بلاده التي تحترق، والتي تتعرض لمؤامرة كبرى .. هي قصة صراعه فوق حلبة بين عشرات وبطل هو ما زال يصارعهم جميعا، عشرات يمثلون آلاف المخربين والإرهابيين، وبطل ينال اللطمات ولا يتعب. ليست قصة محيرة لمشهد مفاجئ، هي واقع مخطط له منذ زمن، وقد صار له توقيته في لحظة قيامة عربية عنوانها جحيم خالص.
تأثرت بمشاهد البرنامج، وأنا أعرف سلفا أن العالم صم بكم عمي عما حواليه لدى الشعوب الأخرى. تتربى البشرية اليوم على فكرة "أنا أولا وليذهب الباقي إلى الجحيم"، ولولا العمليات الإرهابية التي بدأت تظهر هنا وهناك، خارج مكانها الذي ولدت فيه، لما انتبه أحد إلى هذا الشرق الذي يحترق بعنوان كذبة كبرى هي "الربيع العربي" وأن مسؤولية هذا العالم أن يقف إلى جانبه بعدما أذاقه المر من تدخلاته.
من المؤسف أن البشرية ولدت من رحم واحدة، لكنها انتظمت في مساحات مختلفة لم يعد يعنيها من هو إلى جانبها أو يشاركها حتى حدودها. فعل الأنانية ظاهرة عامة، وإن كان هنالك مساعدة فبكلمة واحدة هي "يا حرام".
صحيح أنهم يخرجون من سوريا على أمل حضن آخر، ومهما كان فلن يكون أدفأ من حضن بلادهم، من تلك الشمس المختلفة التي أخبرني ذات يوم أحد اللبنانيين الذين يسكنون فرنسا أن الشمس فيها قريبة منهم وأنه لا معنى لها أحيانا، فيما أخبرني آخر هاجر إلى أوروبا تحت أمل تغيير نمط الحياة، أصابته الكآبة لأن الشمس تسطع في العاشرة صباحا وترحل في الثالثة بعد الظهر، ست ساعات فقط فيما هي في الشرق أكثر من عشر ساعات سطوع.
سأظل أذكر أبيات الشاعر القروي اللبناني الذي هاجر إلى أميركا اللاتينية، وبعد عذابات شهور من الغربة كتب أبياتا ما يشبه الرسالة إلى امرأة أحبته، فيقول: "ولو لم تكوني فرنجية لكنت سعادي قبل سعاد/ ولكنني عربي المنى عربي الهوى عربي الفؤاد/ فإني حرام علي هواك وفي وطني صيحة للجهاد"