[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/jawadalbashity.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]جواد البشيتي[/author]
إنَّ "لماذا"، استعمالًا فتوسُّعًا في استعمالها مع كل إجابة، هي وحدها العربة التي فيها ينتقل الكاتب من البحث في رائحة الشيء إلى البحث في ذات الشيء وماهيته، وهي التي قد تمكِّنه من أن يجتاز الهوَّة السحيقة بين المعرفة المتأتية من متى وأين وكيف.. إلى المعرفة المتأتية من لماذا بقفزة كبرى واحدة لا غير..

يقال في الكاتب الجيِّد الأصيل: كاتبٌ مُجيد، بارع، لبق، متفنِّن، رشيق اللفظ، منمَّق ومصقول العبارة، بديع الإنشاء، صحيح ورائق الديباجة، سبَّاك للكلام، حَسَن الصياغة، حرُّ اللفظ، سهل الأسلوب، منسجِم التراكيب، مُطَّرِد السياق، ناصع البيان، متصرِّف بأعنَّة الكلام، مقبول الإطناب، بليغ الإيجاز، أُنْزِلت الفصاحة على قلمه، أطول الكتَّاب باعًا، وأوسعهم مجالًا، وأسرعهم خاطرًا، وأحضرهم بيانًا، متبحِّر في معرفة مفردات اللغة، عارف بفصيحها وركيكها، مأنوسها وغريبها، عليم بأسرار اللفظ واشتقاقه، وحقيقته ومجازه، لا يهجم على المعنى من غير بابه.
أمَّا في الكاتب الرديء الزائف فيقال: سقيم العبارة، سخيف الكلام، ضعيف الملكة والأداة، متطفل على موائد الكتَّاب، مبتذَل اللفظ والتراكيب، يتلمَّظ بركيك الكلام، ويحوم حول المعاني المطروقة، ضعيف النقد، مِنْ صيارفة الكلام، جُلُّ بضاعته ما ينسخه من متقدِّمي الكتَّاب، وما يمسخه من ألفاظهم، يبدِّل جيِّده بالرديء، ويخلط الفصيح منه بالعاميِّ، ويُفْرِغه في قالب من أسلوبه الركيك الرديء.
هذا معيار من معايير، وميزان من موازين، فلا ننسى ونحن نميِّز كاتبًا من كاتب محتوى ما كَتَب، ومضمونه، وفكرته، وغايته، ودافعه..، فالبحث في ذات الشيء وماهيته خير وأبقى من احتراف البحث في رائحته؛ وكم من كتَّابنا يستنفدون جهدهم ووقتهم في البحث في رائحة الشيء!
بحسب نظرية "العَظْم واللحم"، ثمَّة فئتان واسعتان من الكتَّاب، فئة يشبه نتاجها الفكري القبور القديمة المتقادمة، إنْ نقَّبْتَ فيها، وبَحَثْت، فلا ترى، ولا تَجِد، إلَّا هياكل عظمية، فنتاجهم، من كُتُبٍ ودراسات وأبحاث ومقالات..، يَعْظُم فيه "التجريد الفكري"، والرمادي من الألوان، ويكاد يخلو تمامًا من التعيين والتحديد، وكأنَّ "المعلومة" ليست باللحم الذي يكسو به الكاتب عِظام الفكرة؛ وفئة تتطرَّف في التعيين والتحديد، فيغيب عن نتاجها الفكر والرأي والتحليل والتعليل والتفسير..، وكأنَّ المقالة، مثلًا، هي كيس نحشو به المعلومات فحسب!
ومع تقويم هذا التناقض، أو تخطي هذا التطرُّف وذاك، تَظْهَر إلى حيِّز الوجود الفكري فئة ثالثة، فنرى الكاتب منها في علاقة تفاعل مع "المعلومة"، فهي لا تنزل على عقله بردًا وسلامًا؛ إنَّها تستثيره وتستفزه وتحرِّك سكونه وتخرجه عن صمته، فيعالجها كما تُعالَج كل مادة أوَّلية، تَقْذِفه بـ"السؤال"، فيقذفها بـ"الجواب"، يحلِّلها، ويشرحها، ويتوفَّر عليها، تعليلًا وتفسيرًا، مُطْلِقًا عليها كل ما في جعبته من سهام الأسئلة، أكانت صغيرة مثل متى، وأين، وكيف، وهل، أم كبيرة مثل لماذا؟
وهذا النمط من الكتابة هو ما عناه لينين إذ تحدَّث عن ضرورة وأهمية "التحليل الملموس للموقف الملموس"، فـ"التجريد" و"التعيين" يجب أن يمتزجا ويتداخلا ويتزاوجا، وإلَّا أصبحت الكتابة روحًا بلا جسد، أو جسدًا بلا روح.
إنَّه لَمِنَ العجب العجاب أن تَخْتَرِق "المعلومة" رأس الكاتب عَبْر نافذتي العين والأذن، من غير أن تُحْدِث فيه أثرًا، ولو على شكل سؤال أو تساؤل، فالسؤال، أو التساؤل، إنْ أحسنَّا "صنعه"، وزوَّدناه من أدواته، وفي مقدمها الأداة "لماذا"، ما يكفي لجعله "مفتاحيًّا"، فإنَّ "نصف المعرفة" يصبح في متناولنا.
والكاتب يُحْسِن صُنْعًا إذا ما اتَّخذ من طائفة من الأسئلة والتساؤلات الأوَّلية والأساسية مبتدأ للكتابة، فـ"المعلومة" يحصل عليها أوَّلًا، ثمَّ يَسْتَخْرِج منها ما يستطيع من أسئلة وتساؤلات، يتَّخِذ منها "خريطة طريق"، فيكتب محاولًا الإجابة عنها، وعن الأسئلة والتساؤلات الجديدة التي تُوْلَد في استمرار من كل جواب.
إنَّه يكفي أن يأخذ بهذه الطريقة، طريقة الكتابة بوصفها إجابة عن سؤال، حتى يَسْلَم نتاجه من الجديد غير المفيد، ومن المفيد غير الجديد.
أحد الفلاسفة سأل تلميذًا له "لماذا تتناول الدواء؟"، فأجابه على البديهة قائلًا "من أجل أن أشفى من مرضي"، فاتَّخذ من إجابته سببًا للتوسُّع والتعمُّق في "سؤال لماذا"، فسأله "ولماذا تريد الشفاء؟"، فأجابه بعد شعوره بشيء من استصعاب الإجابة قائلًا "من أجل أن أكون سعيدًا"، فتوسَّع وتعمَّق أكثر إذ سأله "ولماذا تريد أن تكون سعيدًا في حياتك؟"، فأظهر التلميذ، عندئذٍ، من العجز عن الإجابة، وكأنَّ حمار الشيخ وقف في العقبة.
إنَّ "لماذا"، استعمالًا فتوسُّعًا في استعمالها مع كل إجابة، هي وحدها العربة التي فيها ينتقل الكاتب من البحث في رائحة الشيء إلى البحث في ذات الشيء وماهيته، وهي التي قد تمكِّنه من أن يجتاز الهوَّة السحيقة بين المعرفة المتأتية من متى وأين وكيف.. إلى المعرفة المتأتية من لماذا بقفزة كبرى واحدة لا غير، فبفضل هذه "الأداة" نَصْعَد من "سفح الجبل"، الذي هو هنا كناية عن السؤال البسيط "لماذا تتناول الدواء؟"، إلى "قمته"، التي هي هنا كناية عن السؤال المعقَّد "لماذا تريد أن تكون سعيدًا في حياتكَ؟"
ولولا "سؤال لماذا"، الذي أحسن نيوتن "صنعه"، أي صوغه، لما اكتشفنا "قانون الجاذبية"، فملايين البشر شاهدوا تفاحةً تسقط من شجرتها إلى الأرض؛ ولكن أحدًا منهم لم يسأل بـ"لماذا"، ولم يسأل بها كما سأل نيوتن إذ سأل "لماذا تحرَّكت التفاحة المنفصلة عن شجرتها نزولًا ولم تتحرَّك صعودًا؟"
"التجريد الفكري" في الكتابة إذا جاوز حدَّه الطبيعي انتهى إلى ما ينتهي إليه "التعيين" الذي جاوز هو أيضًا حدَّه الطبيعي، أي إلى انفصال الكتابة مع أصحابها عن عالم الفكر والكتابة.
وهذا الانفصال الذي يثمره الإفراط والتطرُّف في "التجريد"، وفي تجريد الشيء من تاريخه، هو ما يَحْمِل أحدنا على قول من قبيل: لو عُدتُ مع عقارب الساعة إلى الوراء عشر سنين مثلًا لما فعلتُ ذاك الذي فعلت، ولفعلتُ ما أنا الآن مقتنعٌ بجدوى وأهمية وضرورة فعله.
لقد بلغ به الانفصال مبلغه، فضرب صفحًا عن حقيقة أنَّ هذه الحكمة التي لبس لبوسها الآن ما كان ممكنًا أن يبلغها لو لم يفعل ذاك الشيء الذي يتمنى أن يعود به الزمن إلى الوراء حتى لا يفعله.. فلو عاد مع الزمن إلى الوراء لفعل الشيء نفسه مرَّة أخرى!
الكاتب عندنا حان له أن يُزاوِج، وأن يُحْسِن المزاوجة، بين "التجريد" و"التعيين"، فيكسو العظم لحمًا، ويعزِّز اللحم بالعظم، فتشفى صحافتنا، على وجه الخصوص، من مقالة مبنية من "المسلَّمات"، التي إنْ نظرنا إليها ولو من غير أن نمعن النظر لما وجدنا فيها من معنى "المسلَّمة" شيئًا؛ ذلك لأنَّ الإثبات يعوزها؛ وتشفى، أيضًا، من مقالة تتصحَّر فيها "لماذا"، سؤالًا وجوابًا، لتزدهر الأجوبة عن كل الأسئلة غير المفتاحية كمثل أين ومتى وكيف، التي منها يمكن ويجب أن نبتني "الخبر"، والتي إنْ بُنِيَت منها فحسب، أو في المقام الأول، المقالة، تداعت وتهافتت، منطقًا وقوامًا وكيانًا.