من كل ذلك ومن دلالات ميدانية أخرى توافرت لي فأنا على يقين تام من التشخيص القائل إن هجرة المسيحيين العرب من بلدانهم تحلق ضررًا رهيبًا بهذه البلدان، وفي المقدمة من ذلك العراق لأن ما يحكم أخلاقيات هؤلاء المواطنين ليس سوى شرف الانتماء لأوطانهم.
[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/adelsaad.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عادل سعد[/author]
فقر العراق قادم حتمًا إذا بقيت البلاد على ما هي عليه من النزيف الحالي، أنا لا أقصد بذلك الفقر ضمن العنوان الاقتصادي الذي ترتب على العراقيين من تراجع أسعار النفط، ومطبات الاقتصاد الريعي، وتفاقم شبكة الديون جراء ذهاب مبالغ مالية طائلة للموازنة العسكرية لمواجهة الإرهاب، أو بسبب الفساد الإداري والرواتب الهائلة التي تتسلل إلى جيوب السياسيين.
ولا أقصد أيضًا الفقر الثقافي الوطني نتيجة استفحال الخطاب الإعلامي والثقافي الطائفي والأثني والمناطقي، وإنما أقصد الفقر الإنساني الحضاري المتأتي بسبب استمرار هجرة المسيحيين العراقيين إلى خارج بلادهم.
لقد زرت مخيمات نازحين ومهجرين قسرًا في أربيل وبغداد وعلى أطراف محافظة نينوى، والتقيت هناك العديد من الأسر المسيحية التي اتخذت من تلك المخيمات مأوى لها، وما أحزني جدًّا أن الكثير من تلك الأسر تضع الهجرة في مقدمة الإجابة على أسئلة لم تتوفر حتى الآن إجابات عليها بشأن الأمن وعائدية مدنهم وبلداتهم وقراهم فأغلبها يخضع لتجاذبات قائمة ضمن عنوان غريب وطارئ (المناطق المتنازع عليها) وهي منازعات بين حكومة إقليم كردستان والحكومة العراقية.
والأسبق من تلك المشاهدات، لقاءات أجريتها في العاصمة اللبنانية بيروت مع أسر عراقية مسيحية تعيش محنة اللجوء هناك وهي تعتصر ألمًا على بلدها العراق وتحلم بالعودة له، وأبهرني حقًّا حديث السيد حبيب افرام رئيس الرابطة السريانية الذي أشار خلال زيارتي له في مقر الرابطة في أحياء العاصمة اللبنانية، إذ أكد لي أن كل مسيحيي الشرق لا يجدون إرادتهم وشرفهم ومستقبلهم إلا في أوطانهم متناولًا العراق وسوريا ولبنان وغيرها من البلدان العربية والإقليمية، كما نقلت لي الصديقة الأخت باسكال وردا وزيرة الهجرة والمهجرين الأسبق معاناتها خلال إحدى زيارات العمل التي قامت بها إلى أوروبا والتقت هناك مواطنين عراقيين مهاجرين مسيحيين، بعضهم كانت نوبات بكاء تأخذهم بعيدًا ويتحرقون شوقًا للعودة إلى بلادهم العراق.
من كل ذلك ومن دلالات ميدانية أخرى توافرت لي فأنا على يقين تام من التشخيص القائل إن هجرة المسيحيين العرب من بلدانهم تحلق ضررًا رهيبًا بهذه البلدان، وفي المقدمة من ذلك العراق لأن ما يحكم أخلاقيات هؤلاء المواطنين ليس سوى شرف الانتماء لأوطانهم.
وتحضرني هنا إشارة للكاتب العربي الراحل محمد حسنين هيكل إذ قال (أشعر أن المشهد العربي كله سوف يختلف إنسانيًّا وحضاريًّا، وسوف يصبح على وجه التأكيد أكثر فقرًا وأقل ثراء لو أن ما يجري الآن من هجرة مسيحيي الشرق ترك أمره للتجاهل أو التغافل أو للمخاوف).
هناك أيضًا الكثير من الشهادات الأخرى التي تحذر من نزيف الهجرة المسيحية، منها وثيقة الأزهر في يونيو/حزيران 2011، وكذلك وثيقة صادرة عن وزارة الأوقاف السورية المسماة (وثيقة الشرف الديني) ووثائق عديدة أخرى لا مجال لذكرها في هذا المقال.
الخلاصة، إزاء المفارقة بين مسيحيين عراقيين ما زالوا في بلدهم ويتطلعون للهجرة ومسيحيين عراقيين هاجروا، ولكن عيونهم تقطر دمًا من أجل العودة إلى العراق يظل المشهد ملبدًا بالكثير من الكدمات النفسية إذا استمر الحال على ما هو عليه من رضا وسكوت وتجاهل، بل وغض النظر مع استمرار هجرة المسيحيين، ولا بدّ أن يكون الضرر كبيرًا على العراقيين المسلمين المعتدلين في رؤيتهم الروحية لأن أساس حضارة العراق منذ أقدم العصور يكمن في تنوعه الديمغرافي، مع ملاحظة لا بدّ من الاعتراف بها أن المسيحيين العراقيين هم بحق مكونات سكانية أصيلة وعريقة وبناة حضارة وساهموا ويساهمون في إرساء دعائهم بلادهم.