[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
يبدو المشهد مع الأسف كأنه مباراة مبارزة بالسيوف أو مصارعة حرة أو (ماتش ركبي) لا لعبة شطرنج رفيعة المستوى لها قواعد وأخلاق مما أضاع أصول التنافس السياسي الشريف، وفتح الأبواب العريضة أمام التراشق العنيف بألفاظ لم نألفها من النخبة، مع الضربات تحت الحزام وتوجيه التهم الجزاف بعضهم إلى بعض.

تعيش فرنسا هذه الأيام في دوامة الانتخابات الرئاسية بل كأنما أصابتها حمى المنافسات الشرسة بين سياسيين ليس بينهم رباط أيديولوجي، كما ليس لديهم مشاريع مقنعة واضحة. ولاحظنا لأول مرة سقوطا أخلاقيا في الحوار السياسي الذي تحول إلى حلبة صراع ثيران.. ولعل بعض القراء عن حسن نية يردون عليَّ بأنها الديمقراطية وتلك علاماتها وهي أفضل من الاستبداد، لكني أنا الذي عايشت الحياة السياسية والاجتماعية الفرنسية على مدى يزيد عن ثلث قرن، أعتقد وأجزم أن انهيارا في المستوى الأخلاقي الأدنى المطلوب أصاب السياسة، لكن العزاء هو أن الثقافة الفرنسية انتعشت وهي من إنجازات الشعب الفرنسي لا من جهود النخبة. الهبوط الأخلاقي يظهر جليا في تمسك بعض المرشحين بالاستمرار في حملتهم، بينما هم مورطون قضائيا في ما يشبه الفضائح، حيث إنهم تجاوزوا صلاحياتهم حين كانوا برلمانيين واستحوذوا على أموال دافع الضرائب تحت ستار تشغيل أفراد عائلاتهم في وظائف وهمية. ويتعجب المرء كيف استحل هؤلاء التصرف في أموال وضعت تحت ذمتهم، في حين أن رواتبهم عالية وامتيازاتهم عديدة، وقد استقبل أحدهم يوم السبت الماضي في (إقليم الباسك) بالبيض والهتاف المنادي بإيداعه السجن! كما أن مرشحة اليمين المتطرف رغم تراجع حزبها عن لهجة العنصرية الساطعة أصبحت تلف برنامجها المشحون بكراهية العربي والمسلم بغطاء من المطالبات التشريعية القانونية. مع استثناء يتيم تمثل في تصاعد شاب وسيم ومثقف بقي بعيدا عن هذا السقوط ولم يبلغ بعد الأربعين وهو (إيمانويل ماكرون) وزير الاقتصاد السابق الذي لم يكن أحد يعرفه منذ ثلاثة أشهر، حين استقال من حكومة (هولند) وأنشأ حركة سياسية معتدلة، وأعلن أنه ليس يساريا ولا يمينيا، بل وطني (معولم) فالتزم خطا سليما من العثرات، بل إنه تجرأ أثناء زيارته للجزائر فصرح أن استعمار فرنسا للجزائر وبقية المستعمرات شكل جرائم دولة وكان عدوانا سافرا على حقوق الشعوب، بل يكاد يبلغ حرب الإبادة العرقية. هذا الموقف سمعناه بهذه العبارات لأول مرة في تاريخ الجمهورية الفرنسية التي ترفض الاعتذار للشعوب المستضعفة إلى اليوم. بل إن (فرنسوا فيون) مرشح اليمين صرح منذ أسابيع بأن الاستعمار الفرنسي كان تقاسما للثقافة الفرنسية والتعاون بين الأمم!! وهكذا يبدو المشهد مع الأسف كأنه مباراة مبارزة بالسيوف أو مصارعة حرة أو (ماتش ركبي) لا لعبة شطرنج رفيعة المستوى لها قواعد وأخلاق مما أضاع أصول التنافس السياسي الشريف، وفتح الأبواب العريضة أمام التراشق العنيف بألفاظ لم نألفها من النخبة، مع الضربات تحت الحزام وتوجيه التهم الجزاف بعضهم إلى بعض. ويلعب القضاء والإعلام ومنظمات المجتمع المدني أيضا أدوارا سلبية غامضة، فتوجه التهم إلى هذا أو ذاك وتعلن الصحف يوميا العثور على ملفات وممارسات خارجة عن القانون لتلطيخ بعض المرشحين أو تنظيف البعض الآخر.
لكن العزاء ـ كما قلت سابقا ـ يبقى الازدهار العجيب الذي تعيشه الثقافة فقد كان المعرض السنوي للكتاب في (باب فرساي) لمدة أيام نشاطاته (من الـ24 إلى الـ27 من مارس الجاري) تأكيدا قويا لحضور الفكر، ووقفت الطوابير الشعبية أمام شبابيك التذاكر بالساعات، ثم وقف الفرنسيون ساعات أخرى أمام المؤلفين وأهل الثقافة ينتظرون توقيعهم على الكتب التي اقتنوها، وتزاحمت وسائل الإعلام الراقية من أجل تقديم الأفضل من المؤلفات الصادرة عن مؤسسات النشر الفرنسية والعالمية، ثم كانت هذا العام المملكة المغربية هي ضيفة الشرف في المعرض، فعرضت الثقافة المغربية أفضل إبداعاتها، كما نظمت حفلات للترويج للسياحة في المملكة، وقدم المغاربة موائد الطعام المغربي الأصيل واللباس التقليدي الجميل. كما أن الجزائر ولبنان كانتا حاضرتين بإنتاج غزير ومشرف. ولا أدري سبب غياب تونس المتكرر عن هذه التظاهرات العالمية التي من المفروض أن نغتنمها ونسوق للأوروبيين ما لدينا من ثراء ثقافي وفكري لا ينكره إلا الجاحدون. لفت نظري كتاب صدر هذا الأسبوع ونال رواجا طيبا وهو طريف في عنوانه وفي محتواه، بل هو يبلغ رسالة أمينة من كاتب أمين للرأي العام الفرنسي وتفضل كاتبه بإهدائي نسخة منه ووعدته أن أبذل جهدي لترجمته للعربية ربما في دولة قطر الخير المحبة للثقافة التي تنصف العرب. المؤلف هو الأستاذ (جون بريفو) JEAN PRUVOST عنوان الكتاب هو (NOS ANCETRES LES ARABES )
(جدودنا العرب) نشر مؤسسسة (جون كلود لاتاس الباريسية) والعنوان الفرعي هو (ما أخذته لغتنا من العربية) وقلت للمؤلف ليست اللغة وحدها التي استفادت من العرب، بل نقل العرب كل حضارة الإغريق لكم مما يسر النهضة الأوروبية وعجل بها ثم استفادت أوروبا من الاكتشافات العلمية للعرب، فوافقني الرجل ووعدني أن يتعمق في بيان هذه الحقائق للأوروبيين، وقلت له مازحا: حين كنا أطفالا في زمن الاستعمار كانوا يدرسوننا أن (الغولوا) أي أجداد الفرنسيين هم أجدادنا نحن! واليوم تكتب أنت كتابا بعنوان (جدودنا العرب) فسبحان الواحد الأحد.