إن قيم المجتمع العماني ذات جذور عريقة تطورت وتأصلت بتطور المجتمع، وهي قيم تستمد جذوتها وقوتها من البيئة التي أفرزتها والثقافة الغنية التي أخرجتها، وطورت من أساليب ممارستها وآليات عملها لتتلاءم مع حاجة المجتمع، وتحافظ في الوقت ذاته على خصوصيته وسماته العامة، وهي قيم خالدة لأنها لا تخرج في مفاهيمها ومعانيها وأهدافها عما أتى به الإسلام من قيم وتعاليم سامية..
[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]

السابع عشر: قيم ومسؤوليات :
عرف عن العرب مناقبهم الحسنة وقيمهم النبيلة وأعرافهم المتأصلة التي سجلتها صفحات التاريخ وعددها الباحثون والكتاب والمهتمون في أسفار كثيرة، ورويت قصص لا حصر لها تعكس حقيقة تلك المناقب. فللعرب مجالس وسجالات وأسواق ومناسبات وصور متعددة تمارس فيها تلك القيم والمبادئ التي ضرب بها المثل، فعرفت عنهم الحمية والأنفة والكرم والتكافل ومبادئ الشورى وإغاثة المحتاج والبر وغيرها الكثير، والمجتمع العماني جزء لا يتجزأ من المجتمع العربي الكبير يشترك معه في الكثير من القيم السائدة والمثل المتعارف عليها بحكم المسيرة المشتركة للمجتمعات العربية تاريخيا وجغرافيا وعقديا ولغويا وثقافيا .. ولكن ومع ذلك يظل لكل مجتمع خصوصياته، سواء أكان ذلك في النوع أو في شكل الممارسة. فالخصوصيات في القيم ـ كما في غيرها من الأنماط ـ تبقى سمة موجودة في كل مجتمع من هذه المجتمعات برغم العوامل المشتركة المشار إليها، والمجتمع العماني يتميز بالكثير من القيم التي شكلت خصائصه وسماته ومن خلالها برزت أوجه ثقافته العامة، (لقد حث ديننا الحنيف على كل القيم التي تعزز السلم الاجتماعي في كافة مستوياته بدءا من توافق الفرد مع نفسه ومجتمعه وصولا إلى السلـم الدولي... ومن هذا المنطلق فقد اتصف العمانيون بتجسيد حالة التعاون والتكافل الاجتماعي، فهم مجتمع تسوده روح المودة والتراحم والمحبة، ويلمس ذلك مـن يقـرأ تاريخ المجتـمع العماني...) من كتاب (الثقافة الإسلامية والتحديات المعاصرة) مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم. وقد ظلت السبلة العمانية مركزا للممارسة الحقيقية لمجموعة القيم التي تشكل ثقافة المجتمع وأصالته، ففي السبلة مورست مبادئ التكافل والشورى، ورسمت صيغ العلاقات بين الكبار والصغار التي تؤطر لكل فئة حدودها والمساحة التي يجب أن تتحرك فيها، وأساليب التخاطب الراقية التي تشكل بحد ذاتها مدرسة قائمة تستحق الرصد والدراسة والتأمل كنهج للتربية يشكل ملامح الشخصية ويقوم اعوجاجها ويعودها على حسن التعامل والرصانة في الأسلوب والتوازن في التعامل مع مفردات الحياة، وقامت السبلة بأدوار هامة متعددة في أغراضها وصيغها وذلك استجابة لحاجة المجتمع ومتطلباته، حيث وجد فيها الفرد متنفسا لقضاء فراغه ومناقشة همومه واكتساب المهارات والتجارب والعلوم المختلفة وسماع القصص والأمثلة التاريخية والشعبية المتنوعة، وتلك المتعلقة بالأسفار واللطائف الأدبية والفكاهية وغيرها من رواد السبلة الكثر الذين تتعدد مواهبهم وتختلف أعمارهم وخبراتهم وتتباين مستوياتهم المعرفية والسلوكية وتتمازج خصائصهم وسماتهم، والتي رسمت للمجتمع قيمه وحددت له المسارات والأطر التي لا ينبغي بأي حال من الأحوال تجاوزها أو التطاول عليها. (كما تقوم المزرعة والمسجد والسبلة في القرية بتعليم الصغار قيم وأخلاق وسلوكيات الآباء الحميدة...)، فمن قيم المجتمع المتعارف عليها:
التكافل، البر، إغاثة الملهوف، تربية النشء، الأخلاق الحميدة، الكرم، التكاتف، المشورة، المعاملة الحسنة، الثقة، إصلاح ذات البين... وهي قيم ومسؤوليات شكلت في وقتها مجتمعا مدنيا حقيقيا، ولا مبالغة في ذلك، فكل ما يهم شؤون الفرد من قضايا اجتماعية واقتصادية وثقافية وخدمية وغيرها، تناقش وفق تلك القيم التي يحترمها ويلتزم بمضامينها الجميع، ونحن أفراد المجتمع العماني نفتخر بتلك القيم لعدة أسباب منها:
- إنها قيم أصيلة في منبتها، غنية في مضامينها تتسم بالحيوية والحركة قابلة للتجديد والتطور .
- تمثل ثقافة المجتمع وخصوصيته وعنوانه وقاعدة انتمائه التي يفاخر بها.
- تحمل مضامين قادرة على وقاية المجتمع وحمايته من تأثيرات الثقافات الدخيلة عليه.
فالإنسان مسؤول في مجتمعه الصغير وفي أسرته وفي قريته وعلى مستوى الوطن، ومن العار أن يتخلى عن مسؤولياته مهما كان الثمن وإن أدى إلى التضحية بنفسه في سبيل أدائهـا. فمن تلك القيم والمسؤوليات من حيث الممارسة العملية، الاستجابة لأية دعوة أو طلب يدخل في إطار فعل الخير والإصلاح وتقديم عون هو قادر عليه، كطلب قرض لأجل مسمى أو القيام بمبادرة للإصلاح بين زوجين أو فردين من أفراد المجتمع حدث بينهما خصام وتنافر أو تقديم دعم مادي لأسرة هي بحاجة لذلك الدعم أو إصلاح شأن من شؤون المجتمع كتحديد مكان تبنى فيه مدرسة أو مسجد أو تخصيص وقف لهما، أو إصلاح ساقية الفلج وإكرام الضيف والدفاع عن المصالح العامة .. فهذه المصالح وغيرها الكثير هي شأن عام كل أفراده مسؤولون عنه. وكذلك مراقبة السلع والبضائع التي تباع في السوق والتأكد من خلوها من أي تلف أو غش لحماية المشتري والحفاظ على سمعة السوق وحماية تلك القيم والمبادئ والأخلاق، وتكليف أشخاص بحراسة المواقع الهامة والتي تمثل ملكا عاما كالسوق والقلعة والقرية والفلج من الغرباء وحمايتها من أي عبث، والقبض على الحيوانات السائبة التي تعتدي على المزارع فتعيث فيها خرابا وهي مسؤولية (الصوار) الذي يعينه لهذه المهمة المجتمع، فلا يسلمها لأصحابها إلا بمقابل غرامة متعارف عليها تمثل أجرا له على عمله، وتشجيع الصغار على مطاردة وقتل (الدبي الأحمر والأصفر) (الدبور) الذي يكثر في فترات الصيف ويقتات على التمور أثناء تجفيفها، أو هي في عراجينها بعد نضجها ويؤذي من يقوم بعملية الجداد والخراف، مقابل مبلغ معروف لمن يقتل مائة منهـا على سبيل المثال. هذه القيم التي تطرقنا إلى بعضها في عناوين سابقة مثلت حماية للمجتمع من الذوبان والانصهار في ثقافات أخرى، وعكست تماسك القيم وقدرته على التأقلم مع المستجدات والتطورات، وأكدت على تحضره وإنسانيته تسامحا وقدرة على الحوار وانفتاحا على الآخر وتأثيرا في الحضارات الأخرى.
إن قيم المجتمع العماني ذات جذور عريقة تطورت وتأصلت بتطور المجتمع، وهي قيم تستمد جذوتها وقوتها من البيئة التي أفرزتها والثقافة الغنية التي أخرجتها، وطورت من أساليب ممارستها وآليات عملها لتتلاءم مع حاجة المجتمع، وتحافظ في الوقت ذاته على خصوصيته وسماته العامة، وهي قيم خالدة لأنها لا تخرج في مفاهيمها ومعانيها وأهدافها عما أتى به الإسلام من قيم وتعاليم سامية، ومن هذه المنطلقات فإنه يجب الحفاظ على تلك القيم وممارستها والعمل على تطويرها لتتلاءم مع ظروف العصر وتطوره وواقعه، فلذلك آثار ونتائج طيبة على المجتمع تمت الإشارة إليها، وهي قيم إنسانية لا تخرج في مجملها عن الكثير من القيم التي يسوق لها الغرب، فلماذا ننصرف عن قيمنا العظيمة؟ ونتجه إلى قيم دخيلة بأسماء ومفاهيم وممارسات مختلفة وكأننا مجتمع فقير في ثقافته وقيمه ومفاهيمه وجذوره وهو ما نظهر به أمام الآخرين. علينا أن ندرك بأنه لا صلاح ولا تطور ولا نهضة ولا بناء إلا بعودة المجتمع إلى قيمه ومثله التي تشكل أصالته وتحافظ على ثقافته وبنيته وشخصيته وتماسكه من الضياع والتلاشي والذوبان وذلك بأساليب متعددة منها:
•إضافة مادة في المنهج تعنى بالقيم العمانية وتاريخها وتطورها وأساليب ممارستها وتأثيرها على المجتمع في الحفاظ على مقوماته وثقافته.
•تكثيف التوعية الهادفة إلى التمسك بهذه القيم وممارستها وتطويرها على أرض الواقع.
•إعادة الاعتبار للسبلة العمانية بإقامة مجالس في الأحياء والقرى العمانية يديرها مثقفون وعلماء ومفكرون وفق برامج واضحة تخدم الهدف.
•تشجيع المجتمع على ممارسة شؤون مجتمعه وإشراكه في مختلف القضايا التي تهمه.
•إجراء دراسات وبحوث حول القيم العمانية تاريخها ومفاهيمها، وتطويرها وبحث تأثيرها على المجتمع المزايا والعيوب.

[email protected]