اياد محمد ضمرة*

■ على مر السنوات الماضية وخلال فترة عملي مع الأفراد المصابين بالتوحد، كان لي الكثير من الحوارات والنقاشات مع العديد من الأشخاص من كافة أطياف المجتمع وشرائحه المتنوعة حول اضطراب التوحد، فبعضهم يرغب في الاستزادة المعرفية من خلال جمع المزيد من المعلومات حول طبيعة هذا الاضطراب ومؤشراته الأولية وأساليب التشخيص والعلاج، أما البعض الآخر فقد كان الفضول دافعهم إلى هذا النوع من الاستفسارات خصوصاً وأن وسائل الاعلام وتقنياته الحديثة ساهمت بشكلٍ أو بآخر في انتشار هذا المصطلح بشكل واسع لاسيما في العقد الاخير من القرن الحالي. وقد لاحظت من خلال هذه الحوارات، أن بعض الأسئلة القلقة كانت أكثر تكراراً من غيرها. هل هناك الكثير من الأطفال المصابين بالتوحد في هذه الأيام؟ أم هل تزداد نسبة الإصابة بهذا الاضطراب مع مرور الوقت وهل التوحد مرض وراثي أم أنه مرض يمكن الشفاء منه بوصفة معينة أوبطريقة طبية ما؟ وفي كل الأوقات كانت هذه الأسئلة تقودني الى تصور أحادي الملامح وهو أن السبب الكامن وراء هذه التساؤلات هو قلة الوعي بهذا الاضطراب رغم بعض المحاولات الخجولة الهادفة إلى نشر الوعي بين أفراد المجتمع، إضافة الى زيادة استخدام شبكة الانترنت وانتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي تقدم المعلومات في كثير من الاحيان بطريقة تُجانب الصواب لتخلق بذلك مجموعة من المفاهيم التي لا تعدو في كونها أقرب إلى الإسطورة منها الى الواقع .. مما ساهم بانتشار ما أسميته «تجارة الوهم».إن اضطراب طيف التوحد أو «الذاتوية» كما يحلو للبعض تسميته هو مصطلح عام يستخدم لوصف مجموعة من اضطرابات الدماغ النمائية المعقدة والتي قد تكون ناجمة عن مزيج من التأثيرات الجينية أو البيئية، وأهم ما يميز هذه الاضطرابات هو ظهور صعوبات بدرجات متفاوتة الشدة في التواصل اللفظي (الكلام) وغير اللفظي (التواصل البصري) الذي يؤثر سلباً على التفاعل الاجتماعي مع المحيط وظهور بعض السلوكيات المتكررة، وهذه الصعوبات مشتركة تؤدي بدورها إلى ظهور تحديات اجتماعية وسلوكية واضحة للطفل المصاب باضطراب طيف التوحد تتفاوت في شدتها بين البسيط فالمتوسط إلى الشديد.

إن التعريفات المتباينة لهذا الاضطراب والتي ظهر آخرها (طبقاً لتصنيف الجمعية الأمركية للطب النفسي: الإصدار الخامس) في شهر مايو من عام 2013 قد ساهمت بطريقة مباشرة أوغير مباشرة في ازدياد نسبة المصابين بهذا الاضطراب حول العالم فكما يشير موقع (AUTISM SPEACKS) فإن النسبة في الولايات المتحدة الاميركية قد تصل إلى وجود شخص واحد مصاب من أصل 68 شخصاً، ولعل هذه النسبة المرتفعة هي ما أدى إلى زيادة الأسئلة القلقة والمبررة في كثير من الأحيان تحديداً عند غير المتخصصين من الآباء والأمهات حول أسباب هذا الاضطراب هل هي فيروسية أم بيكتيرية أم أنه وباء قادم قد يجتاح العالم في وقت ليس ببعيد؟ وهل ستستمر هذه النسبة بالإزدياد المطرد؟ أم أن ذلك يرجع إلى أننا قد بدأنا بتشخيص وبتصنيف الأفراد المصابين بالتوحد ببساطة رغم كونهم لم يصلوا الى درجة من الاستقرار النمائي تسمح لنا باعطاءهم هذه الصفة؟.

في الحقيقة إن زيادة المعرفة المتعلقة بسمات هذا الاضطراب ومؤشرات ظهوره عند أولياء الامور والمعلمين والكثير من أطباء الأطفال، وتطور أدوات القياس والتشخيص البسيطة وسهولة امكانية الوصول اليها من قبل الجميع، قد ساهم في زيادة قدرتهم على كيفية التعرف إالى سمات التوحد، ونتيجة لذلك فإن الكثير من الأفراد تم تشخيصهم وادارجهم تحن مظلة التوحد، بالإضافة إلى ذلك فإننا كمتخصصين عاملين في هذا المجال قد قمنا بتغيير مفهومنا مع مرور الوقت مما أدى الى توسع مفهوم التوحد، هذه العوامل وغيرها قد يفسر لنا أسباب زيادة الإنتشار زيادة الإنتشار التي نراها.

الخروج من عنق الزجاجة

هنا يبرز السؤال الأكثر إلحاحاً علينا جمعياً كأخصائيين عاملين في المجال أو كأولياء أمور باحثين عن فجوة أمل في هذا الممر الطويل، ما هي الإجراءات العلاجية والتأهيلية والتربوية التي يجب أن تتبع من في حال تم تشخيص الطفل على انه مصاب بالتوحد؟ وهل هذا الطفل قابل للتعلم والاندماج الحقيقي في المجتمع غير القائم على نظرة الشفقة والعطف؟.لقد كان الاعتقاد السائد بأن الأطفال التوحديين يجب إلحاقهم بمراكز الإيواء الدائمة و المخصصة للمعاقين عقلياً وكان يستشهد على ذلك بأنهم أطفال غير قابلين للتعلم إلى أن بدأ التشكيك في صحة الفرضيات القائلة بأن الأطفال المعاقين عقلياً غير قابلين للتعلم وكذلك الأمر بالنسبة للأفراد المصابين بالتوحد، ومن هنا انطلقت الدراسات والبحوث التي هدفت إلى اكتشاف الطرق الأكثر فاعلية في تعليم هذه الفئة. ويعتقد الآن بأن برامج التدريب عالية التنظيم هي الأفضل للتعامل مع الأطفال التوحديين ويدعم هذا الاتجاه ثلاثة أسباب، أولها: أن الصعوبات التي يعاني منها الأطفال التوحديون في مجال التفاعل الاجتماعي تحتم على المربي أن يأخذ زمام المبادرة أثناء تعامله مع الطفل وأن يستمر في إعطاءه التعليمات والإرشادات وإلا فإن الطفل سينسحب من الموقف الاجتماعي وينشغل بواحد من السلوكيات الاستحواذية التكرارية مما يحرمه من فرصة تعلم معلومات أو مهارات جديدة، وثانيها: أن برامج التدريب عالية التنظيم تعتمد على تجزئة كل نشاط تعليمي إلى عدة خطوات سهلة وواضحة، وثالث هذه الأسباب هو أن هذا النوع من البرامج يتجنب إحداث أي تغير مفاجئ على سير البرنامج العلاجي.

وتعتبر برامج التدخل المبكر من البرامج ذات الأهمية العالية للتعامل مع الأطفال المصابين بالتوحد وأسرهم وتنبع حقيقة هذه الأهمية إذا ما عرفنا أن المراكز العصبية والحسية في الجهاز العصبي لا تزال في طور التشكل والنمو، ما يجعل من السهل تعديلها وتطويرها السنوات الأولى من عمر الطفل وإكسابه المهارات التعليمية و التواصليىة والاجتماعية اللازمة لتعامله لاحقاً مع متغيرات الحياة على امتداها.كما أن الخبرة المبكرة لدى الأهل تلعب دوراً مهماً في تنشئة طفلهم وذلك من خلال إتباعهم منذ السنوات الأولى، من عمر هذا الطفل، الأساليب العلمية التربوية السليمة للتعامل مع خصوصية هذا الإضطراب، وبالتالي التقليل من السلوكيات غير المرغوب فيها، وذلك لما يتصف به الطفل في هذا العمر، من المرونة والقابلية للتغيير، إضافة إلى تقليل الضغط والقلق، الناتجين عن عدم معرفتهم بالطرق والأساليب المناسبة للتعامل مع طفلهم.إن الدور الكبير والمهم الذي تلعبه هذه الخبرات المبكرة والمتراكمة في حياة الطفل سواء أكانت مكتسبة من والديه الممتلكين لمعرفة علمية وعملية بطبيعة الإضطراب وأساليب التعامل معه أو الخبرات من البيئة التعليمية من برامج التدخل المبكر تؤكد ما ذهبت اليه جميع الدراسات والأبحاث الحديثة في أن برامج التدخل المبكر تعد العمود الفقري لما يليها من برامج لاحقة في عمر متقدم للطفل.تتضمن غالبية البرامج العلاجية المبكرة على اختلاف مسمياتها ومبرراتها عدة قاسم مشتركة فهي تسعى في مجملها إلى زيادة قدرة الطفل التوحدي على التواصل والى خفض السلوكيات الاستحواذية إلى ادنى مستوياته أو إزالته نهائيا والعمل على تحسين مقدرة الفرد على التفاعل الاجتماعي وتحقيق الاعتمادية والاستقلالية.
تكمن أهمية برامج الدمج الاكاديمي والتربوي في كونها تنطلق في جوهرها من مفهوم اجتماعي أخلاقي ثقافي ينبع من حقوق الإنسان التي يجمع عليها جميع بني البشر وتقررها الشرائع والقوانين والتي تقوم على مبدأ تكافؤ الفرص وعدم التمميز بين أفراد المجتمع القائم على التصنيف والعزل لأي فرد بسبب عرقه أو دينه أو إعاقته، إلى جانب تزايد الاتجاهات الإجتماعية الإيجابية الرافضة لمفهوم الوصمة الاجتماعية للأشخاص المصابين بالتوحد.إن سياسة الدمج تقوم على ثلاث ركائز أساسية تتمثل في أنها توفر بشكل تلقائي خبرات التفاعل بين الأشخاص المصابين بالتوحد وأقرانهم العاديين مما يؤدي إلى زيادة فرص التقبل المجتمعي لهذه الفئة مما يعطي الأشخاص ذوي التوحد فرصاً كافية لتعلم وإكتساب السلوكيات المختلفة الصادرة عن أقرانهم العاديين وتحديداً تلك المتعلقة بالتواصل والتفاعل الاجتماعي.
لذا فإننا حين نتحدث عن اهمية برامج الدمج الشامل فإننا لا نطرحها بإعتبارها ترفاً مجتمعياً او تربوياً وإنما هي طريق حتمي لا مفر من السير فيه لتححسن جودة حياة أبناءنا من المصابين بالتوحد وجعلهم قادرين على أن يكونوا مواطنين فاعلين في خدمة أوطانهم ومجتمعاتهم. ■

أخصائي اضطرابات التواصل وتطوير برامج الدمج