[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/tarekashkar.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]طارق أشقر [/author]
قد يرى البعض في مصطلح "الشعبوية" أنه دخيل على الممارسة السياسية في العصر الحديث، خصوصا بعد أن تمكن الكثير من أحزاب اليمين في أوروبا من فرض نفسها في الساحة السياسية بلفت الأنظار إليها، وزيادة حصتها بين الناخبين وفوزها بمقاعد نيابية إضافية في بعض البرلمانات الأوروبية، وصعود تيارات تطالب بالخروج من الاتحاد الأوروبي، فضلا عن وصف بعض المراقبين للانتخابات الأميركية الأخيرة بأنها أخذت طابعا شعبويا.

ولكن ووفقا لعدد من الأكاديمين الأوروبيين فإن المصطلح قديم قدم الفلسفة (الاشتراكية) وهو في الأصل أقرب إليها منها إلى (الليبرالية)، حيث يعرف بأنه "خطاب سياسي موجه إلى الطبقات الشعبية وقائم على انتقاد النظام السياسي بالدولة التي يسود فيها استخدام هذا المصطلح، كما ينتقد النخب السياسية ويتحدى المؤسسات التقليدية للدولة"، في حين أن أبرز استخدامه قديما كان في القرن التاسع عشر في روسيا خلال 1870 حيث كان يقصد بالشعبوية الحركات الزراعية الاشتراكية الهادفة لتحرير الفلاحين، كما استخدمت بنفس المعنى في تلك الفترة ببعض دول أميركا اللاتينية.
أما في الراهن السياسي المعاش، فقد ازدهر استخدام هذا المصطلح في الصالونات السياسية، وفي الأروقة والأركان السياسية الانتخابية في أوروبا وأميركا، وذلك في وقت تمكنت فيه الأحزاب اليمينية الأوروبية في أوروبا من دغدغة مشاعر الناخبين وتجييشهم ضد ما هو سائد من اتجاهات وقناعات سياسية تقليدية، فتمكنت بذلك من تغيير البوصلة السياسية في كثير من الدول الأوروبية... ومن هنا ينبري التساؤل عن مدى قدرة مصطلح الشعبوية على تقزيم مفهوم القومية في أوروبا؟
وبالنظر إلى الحراك السياسي الذي شهدته وتشهده القارة الأوروبية، يرى المراقبون أن مصطلح الشعبوية بمقدوره أن يهدد مفهوم القومية الواسعة لدى الأوروبيين، ذلك المفهوم الذي كان سائدا بقوة وتمحورت نتائجه بالدرجة الأولى في تكوين كيان اقتصادي سياسي له صيته، ألا وهو الاتحاد الأوروبي. ولكن مع انتصار فكرة البريكست التي أدت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لأسباب داخلية عززت من فكرة تفضيل المصالح الداخلية للشعب البريطاني، يأخذ المصطلح درجات متقدمة في قدرته على فرط عقد منظومة الاتحاد الأوروبي بعد أن تمكن مناصرو البريكست من دغدغة مشاعر المناصرين لهم.
وفي الولايات المتحدة الأميركية التي ركز ناخبوها في الانتخابات الأخيرة على تبني "شعار أميركا أولا" تعززت الفكرة لدى المراقبين بأن مصطلح الشعبوية أخذ مراكز متقدمة في الاتجاه بالشعوب نحو الانكفاء إلى الداخل.
كما ازدهر استخدام المصطلح نفسه ـ أي الشعبوية ـ في هولندا التي تمكن اليمينيون فيها وخصوصا حزب الحرية الهولندي من الحصول على عشرين مقعدا في البرلمان الهولندي، فيما ينشط اليمين أيضا في فرنسا استعدادا للانتخابات المقبلة في الشهر الجاري، حيث يسلط المراقبون الأضواء على مارين لوبان رئيسة الجبهة الوطنية الفرنسية التي تتطلع للوصول إلى قصر الأليزيه الفرنسي، وغيرهم أيضا في الكثير من الدول الأوروبية الأخرى، ما يعزز فكرة أن الشعبوية قادرة على جر الدول الأوروبية إلى سياسة الانكفاء على شعوبها ومصالحها أولا.
وبهذا يمكن أن يكتب لمفهوم القومية الأوروبية التي تحققت عمليا في تكوين اتحاد أوروبي فاعل حقق الكثير من النجاحات الاقتصادية والسياسية طوال السنوات الماضية، ليصبح مصير تلك القومية نفس المصير الذي آلت إليه فكرة القومية العربية التي وئدت مبكرا، وحفرت لها أوروبا نفسها القبر وكأنها كانت تخشى أن تجلب لها القومية العربية البائدة عارا... ولكن الآن قد يبدو أن السحر قد انقلب على الساحر.