المسجد في القرن الحادي والعشرين
تطورت المساجد عبر تاريخها الممتد لأكثر من أربعة عشر قرنا تطورا ملحوظا على المستويات المحتلفة، الثابتة والمتحولة، ومنها الشكلية والمحتوى الظرفي للمكان الحضري. وذلك بالرغم من ثبات التكوين العضوي ثباتا نسبيا، لتعكس أيضا خصوصية الزمان في التعبير الكلي عن فلسفة ومفهوم العلاقات المختلفة للمسجد والمعادلات الناظمة لآلية إفراز مكوناته العضوية بشكل أعمق من الفهم بعيدا عن التشكيل السطحي الذي استقى ملامحه من مرجعيات تاريخية. ففي القرن الحادي والعشرين باتت أطروحات تصميم المساجد تعكس هذه التطورات المهمة الزمانية والمكانية، وأيضا الظرفية التي تشمل نظم الحياة والمعيشة، لتقدم علامة فارقة وخطا مفصليا تم تجاوزه بعيدا عن الطروحات الكلاسيكية التي سادت عمارة المساجد عبر تاريخها الممتد الطويل. وفي هذا الإطار تمثل بعض الطروحات الجريئة خروجا عن النص التاريخي بأطره الشكلية لتقدم مثل هذه الطروحات المتميزة تفاعلات "روحانية" مع المكان بشقيه الداخلي والخارجي وما بينهما، وضمن منظومة معقدة من معادلات التصميم البيئي والنفسي والجمالي والمحتوى الظرفي لتقدم المسجد كحاضنة للإبداع ومتفاعلات العلاقة بين النور الطبيعي المتسلل بحذر وبقدر إلى قاعة الصلاة الداخلية وبين العلاقة المتوازنة مع الخارج وبنقلات مدروسة ومتسلسلة من البوابة الخارجية وحتى المحراب. وهذا النور المتسلل بات يعني أكثر من دلالاته الحسية ليتجاوز ذلك إلى إشارات ومعاني فلسفية تخلق علاقات متوازنة بين الظل والنور، وبين المادة والروح، والأهم بين الخارج "المادي" وبين الداخل "الروحاني" التعبدي.
فمع غلبة التطور الفيزيائي التكنولوجي في بيئات القرن الحادي والعشرين، اشتدت النزعة في تطوير عمارة المسجد تجاه تطوير الأسس التي تقوم عليها مفاهيم تصميمه لتميل أكثر نحو تقديمه "كملاذ روحاني" ينعزل عن المحيط. وبالقدر الذي زادت فيه الطروحات الفلسفية، والمعمارية، في غلبة الجانب الروحاني للمسجد على التشكيل العمراني الفيزيائي بقدر ما جاء الحل المعماري متوافقا وناجحا لمعالجة غلبة "المادة" على "الروحانيات" في معيشة القرن الحادي والعشرين. ولذلك نجد بعض المحاولات المعاصرة لتصميم المسجد قد "عزلت" المسجد "حسيا" عما حوله، خلافا للأعراف التقليدية السائدة في عمارة المساجد التي تميزت بالتواصل الحضري الحسي بالنسيج العمراني للمدينة العربية التقليدية. وهذا الطرح المعاصر إنما يعبر عن مدى "الفصام" الذي قدمته الحياة في القرن الحادي والعشرين بين "المادة" وبين "الروح"، فجاء التعبير العمراني المعاصر لعمارة المسجد انعكاسا مباشرا وصادقا لهذا الفصام. وبالرغم من ذلك إلا أن الطروحات الجادة، ولترميم هذا الفصام قد ركزت على خلق مناخ داخلي للمسجد يعلي من شأن الروحانيات ويزيد من "انعزالية" المصلين داخل قاعات الصلاة بعيدا عن "شوائب" وأخلاط الحياة الخارجية، تجسيدا لتكبيرة الإحرام التي ترمز "لطرح الحياة الحسية وراء ظهر المصلي حين يرفع يديه تجاه أذنية ملقيا الدنيا وراء ظهره".
والمسجد بهذا المفهوم الذي تطرحه المقاربات المختلفة يعكس الزمان المعاصر بما تقدمه مفاهيم القرن الحادي والعشرين، إذ تتحول فكرة التصميم إلى فلسفة العلاقات المختلفة بين مكونات المسجد العضوية "المكانية" مع خصوصية "الحدث" ذاته مضافا إليها "قدسية" ماهية المكون الفيزيائي "اللازمانية" مضروبا في مربع المسافة بين المفهوم التقليدي العمراني الإجتماعي وبين التحورات المعاصرة. ولذلك فالأطروحات الفلسفية المعاصرة في القرن الحادي والعشرين إنما تحاول إعادة ترسيم العلاقات والتداخلات بين أقطاب المعادلات التي تدخل في تصميم المسجد كحدث عمراني اجتماعي ديني يعبر عن واقع الحياة المعاصرة، بالرغم من أنه يستلهم بالدرجة الأولى "منابع" الأصول التي قام عليها بنيان المسجد تاريخيا كمحدد ديني ذي كيان راسخ بأبعاد و"أنماط" تكوينية نحت منحى "القداسة العمرانية" في التعبير عن أشكال وأنماط بناء كادت أن تصبح "ثوابت" لا تقبل التغيير. ومن هنا ففلسفة التعبير والطروحات العمرانية في الخطاب المعاصر إنما تعني حوارا واعيا لما يمكن أن يكون "ثابتا ثبوت قداسة" لا يمكن بحال تجاوزه أو تغييره، وبين ما يمكن إعادة "إنتاجه" بمعطيات فلسفة وروح العصر تعبيرا "لازمانيا" عن "فكرة المسجد" لا إعادة إنتاج "نمطية" تعلي من الشكل دون المضمون مع غبن كبير لظروف وإرهاصات ومحددات العصر.
وانطلاقا مما سبق، يتبين الدور الكبير الذي تقوم به جائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد في توفير الحاضنة والمنبر الملائم لمناقشة الطروحات الفلسفية المختلفة التي يمكن أن تقدمها إبداعات المعماريين في منطقة الخليج العربي، تحديدا لهذه الدورة الثانية، مع الآفاق الرحبة التي تستشرفها الجائزة في دوراتها القادمة. وهنا حصريا يتبين أن "تخصيص" الجائزة لعمارة المسجد، بالرغم مما قد يوحي به هذا التخصيص للوهلة الأولى وبالنظرة السطحية الغافلة، إنما يعني النقيض تماما. فالتخصيص هنا يعني سبر أغوار عالم رحب، ويفتح الباب واسعا أمام أفق لا حد له من استكشاف العلاقات المتجذرة الكلاسيكية التي تفاعل من خلالها الطرح العمراني على المستويات الحضرية والبيئية والنفسية والإجتماعية والمادية والروحية، تفاعلا أنتج على مدى قرون نماذج متعددة وطبعات متميزة للمسجد. لكن الجائزة أيضا بتخصصها بعمارة المسجد إنما تؤسس لقاعدة مهمة في فهم أوسع ومتخصص ودقيق لمحددات العلاقات والمستويات المختلفة لعمارة المسجد بين الماضي والحاضر والمستقبل. كما أن الجائزة تعمل على فتح مجال مهم للحوار والنقاش للأبعاد المؤثرة والمهمة التي تمليها ظروف إنتاج المسجد الإجتماعية والثقافية وانعكاساتها على تحورات الحاضر عن مقابلها التاريخي. وفوق ذلك كله، تقوم الجائزة بتوثيق ما لا يحصى من المساجد، في الخليج العربي ومستقبلا ضمن دوائر أعم وأشمل، من خلال الترشيحات والتقديمات التي تتجاوز بكثير حدود المساجد الفائزة أو تلك التي وصلت القائمة القصيرة. وما هذا الكتاب إلا خطوة مهمة وأولى على هذا الطريق، حيث تمثل هذه الجائزة طرقا غير مسبوق لهذا النمط المهم من المباني الخاصة التي صبغت ملامح العمران في العالمين العربي والإسلامي ولم تستوف حقها، قبل الآن، من البحث والتقصي والنقاش، والتقدير ودفع المحاولات نحو عمارة مهمة للمساجد من خلال التقييم، المادي والمعنوي والواقعي التقدمي الذي يستشرف المستقبل، والذي تقدمه الجائزة.
الدورة الثانية للجائزة
ثمة مجموعة متميزة من المساجد التي وصلت للقائمة النهائية للدورة الثانية لجائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد. وقد اجتمعت لجنة التحكيم لمدة ثلاثة أيام في شهر ابريل من عام 2016 تمت خلالها المداولات والنقاشات للنظر في المشاريع المترشحة للجائزة، والتي بلغت 122 مشروعا تقدمت لهذه الدورة من الجائزة، حيث تغطي هذه المساجد دول مجلس التعاون الخليجي. وقد قسّمت اللجنة التنفيذية للجائزة المشاريع المقدمة إلى ثلاث فئات: المساجد المركزية، ومساجد الجمعة (الجامعة)، والمساجد المحلية. وبالإضافة إلى اختلافها من حيث الحجم، فهذه المساجد التي تنتمي إلى هذه الفئات تمثل أيضا اختلافات بشأن التمويل والرعاية والسياق المادي.
وقد اختارت لجنة التحكيم فائزا واحدا بالجائزة الأولى عن كل من هذه الفئات الثلاث. وتمثل الطلبات المقدمة للجائزة لمحة شاملة عن تطور عمارة المساجد في منطقة الخليج على مدى السنوات الأربعين الماضية. وبالنظر إلى كثافة بناء المساجد في المنطقة، هذه المراجعة هي أيضا غنية بالمعلومات بشأن التطورات التي تؤثر في عمارة المساجد التي تحدث في جميع أنحاء العالم، وتقدم تبعا لذلك توثيقا قيّما ذا قيمة عالمية. وكما استعرضت لجنة التحكيم المشاريع المقدمة، فقد تم تحديد المنهجيات الابتدائية الأربعة التالية لتعريف تصميم المسجد:
أولا – المنهجية التي تستمد الإلهام من السياقات التاريخية التقليدية المحلية، وتلتزم فضلا عن ذلك بأمانة إلى لغات والمبادئ المعمارية لهذه السياقات، وأيضا تعمل على تحديثها لتلبية الإحتياجات الوظيفية المعاصرة والحساسيات البصرية.
ثانيا – المنهجية "الكلاسيكية" التي تلتزم بأمانة بالتقاليد المعمارية الكلاسيكية الكبرى في العالم الإسلامي مثل تلك التي تعود للأمويين والعباسيين والمماليك والعثمانيين، والتي أيضا تقوم باحتضان وتكامل مزيج من هذه العناصر في مبنى واحد. وتؤكد هذه المنهجية أيضا مواد البناء والتقنيات ونظم الإنشاء التقليدية.
ثالثا – المنهجية التي تقبل عناصر ومبادئ عمارة المساجد التاريخية ما قبل الحداثة، ولكن أيضا تهدف إلى تطوير ماهية التعبيرات المعاصرة بشكل واضح من هذه العمارة.
رابعا – منهجية الحداثة التي تركز على تجريد الأشكال التاريخية ما قبل الحداثة أو على توليد أشكال جديدة.
وقد رأت لجنة التحكيم أن هذه كلها مقاربات صحيحة نحو تصميم المسجد الذي يستحق دراسة جادة في البحث الجاري عن العمارة المعاصرة بالقرن الحادي والعشرين.

المساجد المركزية
وقد تم تقديم سبعة وعشرين مسجدا من هذه الفئة لهذه الدورة من الجائزة. وتمثل هذه المساجد الكبرى على نطاق واسع التي تنفذها بشكل رئيسي الدولة كمشاريع ذات أهمية رمزية. هذه المساجد أيضا في كثير من الأحيان تستوعب المرافق المجتمعية الأخرى مثل المكتبات والمناطق التعليمية. هذه المنشآت هي ذات مكانة عالية وعادة ما تحتل مواقع مرئية، وبالتالي تمثل وجودا كبيرا، إن لم يكن مسيطرا، ضمن سياقها.

وقد قامت لجنة التحكيم باختيار مجموعة مختارة من اثني عشر مشروعا تمثل أفضل قائمة تعبر عن منهجية التصميم لهذا النوع من المساجد. وتشمل هذه المنشآت الضخمة التي تؤكد المحورية والتماثل، والتي تستلهم من التقاليد المعمارية الكولونيالية في العالم الإسلامي. كما تشمل المنشآت التي تدرس المفردات المعمارية المحلية التقليدية وتحاول تطويرها في نطاق هائل وكممثلين للهوية الوطنية. والأخرى تبدأ مع النماذج التاريخية التقليدية، ولكن تطورها في سياق التعابير المعاصرة بشكل حازم. وقد تمت مراجعة هذه المشاريع المترشحة بعناية، واستكشاف المنهجيات والمزايا المختلفة التي تقدمها، ومن ثم تقليصها لأربعة مشاريع تستحق التحقيق بطريقة أكثر تفصيلا. ومن هذه الأربعة، اختارت لجنة التحكيم المشروع الفائز وهو جامع الشيخة سلامة المبني في 2011 في مدينة العين، بأبو ظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة، الذي تم تصميمه من قبل المهندس المعماري الأردني الراحل جعفر طوقان. والمشروع يعتبر ناجحا جدا في التعبير المعاصر عن النماذج التقليدية لعمارة المساجد. فهو تصميم جيد، ومفكّر فيه بشكل عميق ويمثل الثقة وأيضا التعبير الواضح، بالإضافة إلى التقدم الفعلي للمساحات والعناصر المعمارية التي تؤدي من واجهة الشارع للموقع من خلال الفناء وفي قاعة الصلاة، وتنتهي مع المحراب الكبير البارز. وقد لاحظت لجنة التحكيم بشكل خاص مهارات المهندس المعماري في البقاء وفيا لمبادئ عمارة المساجد والأنماط، ولكن مع ذلك بتفسيرها بنجاح من خلال وساطة المفردات المعمارية الحداثية والمعايير الجمالية.
جامع الشيخة سلامة يجسد الرمزية في التعبير المعماري، حيث تبدو بالنسبة له كامنة في تعريف الإسلام؛ الذي يجسد الضوء والنقاء والسكينة. ولذلك جاء التصميم مستلهما هذه القيم لإعادة تفسيرها في البنية الفراغية وفي تشكيل مختلف عناصر المسجد، كتعبير عن روح وجوهر الإسلام. كذلك كان تطور الفكرة التصميمية من خلال التفسيرات متعددة المستويات وعملية معالجة الفراغات والعناصر المعمارية. من الغلاف الخارجي والعناصر الرأسية التي تحيط بالفراغات الداخلية والخارجية، إلى التوسعة وروابط المستويات الأفقية المختلفة، وحتى العناصر والتفاصيل التي تم دمجها بشكل ناعم وجميل والتي تتلاعب مجددا بالضوء، والظل والنور، وتقوي من الرمزية والشخصية الإسلامية المعاصرة والتقليدية المحدثة للمسجد. التكوين الحجمي للجامع كان حافلا بالتدرج الفراغي للداخل وخاصة من خلال عملية "تدرج مستويات" الفراغات التقليدية، والبوابات، والأروقة، والفناء أو صحن الجامع، والحجوم الفراغية متعددة الطوابق وعلى مستويات مختلفة، والأدراج التي تمدد الفراغ الخارجي ليتلاقى مع الفراغ الداخلي.
في فلسفة التصميم يعتمد المصمم أفكارا مستوحاة من التكوين العام لمساجد الإمارات التقليدية فالتكوين العام لمساجد الإمارات التقليدية بسيط لكنه وظيفي. فالأرض المخصصة للمسجد التقليدي الإماراتي يتم تحديدها من خلال جدار محيط والذي يغلف كامل الأرض. ويكون للسور المحيط مدخلا واحد أو أكثر للسماح بالدخول إلى الصحن المكشوف للسماء، مع رواق مغطى، يكون بين الصحن وبين قاعة الصلاة يقود مباشرة إلى قاعة الصلاة. ويكون جدار القبلة وهو أحد جدران قاعة الصلاة، ويحتوي الجدار على منبر يتكامل ضمن المحراب. ومعظم المساجد تحتوي على ميضأة في الصحن المكشوف، ومئذنة أو مصطبة للنداء للصلاة مكانها عادة ضمن حدود المسجد أو ملاصقة له.
أما المساجد الآخرى من هذه الفئة والتي تم ترشيحها للقائمة القصيرة فهي جامع السلطان قابوس بنزوى وجامع محمد عبد الوهاب بقطر وجامع أحمد الفاتح بالبحرين.
مسجد السلطان قابوس يتميز من الناحية المعمارية بصريا بوجود القبةَ الرئيسيةَ التي تسيطر على التكوين العام. أما الأربع مآذنِ التي تحيط بالمسجد فتشكل بقوة خط السماء المحيط. وعلى الواجهات الخارجية يلاحظ استعمال الأقواس المستطيلة المدببة، وتنتهي الواجهات في أعلاها بشرفات مستوحاة معماريا من عمارة القلاع العمانية خاصة، ومن مسننات الشرفات في العمارة الدفاعية عموماً. ويميز الجامع اللون البني المتناغم مع الخلفية الجبلية حيث استعمل بني الحجر الرملي في بناءه.
ويمثل جامع السلطان قابوس نموذجا مبتكرا للعمارة المسجدية المعاصرة في تكوينه المعماري فراغيا وبصريا. كما يقدم عناصر معمارية قوية بصريا وتكوينيا في صياغتها وتناغمها مع التكوين العام الكلي للجامع. وهذه يمثلها القبة المركزية التي تهيمن على التكوين العمراني الخارجي، بالإضافة لقوة التكوين العمراني الذي يربط كتلة الجامع الرئيسة مع ما يحيط بها مباشرة من فضاءات وساحات خارجية تمثل امتداد الجامع من جهة، ومع المحيط الحضري كرمز ومعلم. ويمثل الجامع الرابض بألوان مواده امتدادا عبر الأفق لخلفية المشهد العمراني والجبال المحيطة في البعد المحلي للمكان. أما التصميم الداخلي للجامع فجاء معبرا وغنيا جدا بسبب استعمال العديد من المواد والنماذج الزخرفية والألوان. ويتميز تصميم الجامع باحتوائه على مختلف الفنون المعمارية والجداريات مثل فن الزليج المغربي والجداريات التي تحتوي آيات من القرأن الكريم، وباستخدام متعدد للمواد والألوان في تناغم متميز. وهذه الأعمال الفنية التي تمثل نماذج بمرجعيات من العمارة التقليدية.
جامع محمد عبد الوهاب يعتبر حالة معمارية فريدة تختلف عن حالات تصاميم الجوامع الشائعة، فالمسجد يجسد التراث القطري في بساطته. ويحاكي بناء جامع الإمام محمد بن عبدالوهاب على شكل وطريقة جامع "بوالقبيب" الموجود في منطقة السوق بجوار شارع حمد الكبير. أما الطابع المعماري العام للجامع فكان معبرا عن العمارة البيئية الصحراوية مع اشتقاقات واستعارات تاريخية محلية، حيث استعملت الأبراج على زوايا الجامع في المسقط الأفقي ولتعبر عن عمارة الصحراء التقليدية الدفاعية ولكن بأسلوب معاصر حيث تم تحويل أبراج الزوايا هذه إلى خلوات للمطالعة والقراءة. كما تمت معالجة المحراب والمنبر بأسلوب بسيط كبروز معماري مدروس يخفي الدرج الصغير الذي يصعد منه الخطيب للمنبر من خلف المحراب.
وتظهر بساطة العمارة في الواجهات والمقاطع المعمارية. فقد تم تقسيم الواجهة إلى جزء سفلي على ارتفاع أقل من ارتفاع البوابات، وإلى الجزء العلوي الذي يحوي عددا قليلا من الفتحات والنوافذ بأسلوب عمارة المناطق الحارة للحفاظ على درجات الحرارة منخفضة في الداخل. كما تبدو المئذنة رشيقة وتذكر بالمنارات حيث تعلو من برج مربع وتتحول لبرج اسطواني متناقص حتى قمتها. وتبدو نسب الجامع أفقيا مدروسة بشكل كبير وبعناية في تكاملية العلاقة بين ارتفاع فراغ الجامع الداخلي بعلاقته مع القباب وكما يظهر في المقاطع المعمارية.
أما التكوين المعماري لجامع احمد الفاتح من الخارج يوحي بالعظمة التي نشاهدها في المساجد العثمانية. حيث تبدو كتل المسجد متراكبة وتعلو باتجاه القبة الرئيسة التي تسيطر على التكوين الكلي للجامع رأسيا وأفقيا. أما المئذنتان المحيطتان فتعملا على توازن الأفقي مع الرأسي على طرفي المحور الرئيس الذي يتعامد مع قبة الجامع. في هذا التكوين المعماري تغلب الرأسية على الأفقية، ويبدو ذلك واضحا أيضا بالنظر إلى الأقواس التي تحيط بالأفنية المكشوفة للمسجد حيث تميل نسبها للإستطالة رأسيا والتي ترتفع على أكثر من طابق. وهذه الرأسية للمسجد على ضخامته في التخطيط الأفقي تعطي للفراغات الداخلية والخارجية فخامة وضخامة توحي بالرهبة وتضفي جوا من السكينة والهدوء على أجوائه الداخلية تتطلبها طبيعة الجامعة التعبدية والروحانية. المخطط العام للجامع يبدو وكأنه يميل للتصميم الكلاسيكي من حيث وجود تناظر حول محور رئيس للجامع يتعامد مع جدار القبلة. والتناظر يبدو تناظر تاما في الطابقين الأرضي وطابق الميزانين. وقد تم تصميم القاعة الرئيسة للصلاة على شكل مربع تقع على زواياه الأربع أعمدة ضخمة تحمل القبة الرئيسة، ويحيط بالقاعة ما يشبه الممر من الجهات الأربع. وهو تخطيط غير مألوف للجوامع التقليدية حيث تميل قاعة الصلاة للإستطالة بحيث يكون الضلع الأطول باتجاه القبلة مع وجود ما يشبه الإيوانين. وللحديث بقية

د. وليد احمد السيد
مستشار تطوير التراث العمراني
[email protected]