[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
المبادرة المجتمعية التي ينظمها ويقودها شباب المضيرب لها العديد من المساهمات الملموسة في خدمة هذه الواحة الغناء خلال السنوات القليلة الماضية، ولكنها لأول مرة تمد يدها إلى السوق القديم فتستنهض الهمم وتخاطب العقول، وتستحث المشاعر وتنجح في جمع شتات إرث اعتقد ورثته بأن رياح الزمن ذرته فلم يبقَ له من أثر إلا ما تحتفظ به ذاكرة من ظل من كبار السن فلم يختطفه الموت بعد..

نشرت قبل عدة أشهر في هذه الصفحة من جريدة "الوطن"، مقالا عن بلدة المضيرب ومكانتها التاريخية ومعالمها الأثرية وشخصياتها العلمية والأدبية والتي تعتبر نموذجا حقيقيا لإسهامات العمانيين وحضارتهم التي تنوعت واشتملت على مختلف المجالات التعليمية والهندسية والثقافية والزراعية والبحرية وغيرها، وكيف أن المجتمع المحلي في تكامله وتكاتفه ومبادراته وجهود أفراده في كل قرية كان مسؤولا مسؤولية كاملة عن النشاط التجاري والتعليمي والاجتماعي، ويقوم في السابق بدور المؤسسات الحكومية اليوم في بناء المساجد والأفلاج والمجالس والمدارس وتسيير الأسواق والإشراف عليها وصيانتها، وتخصيص الأوقاف وبيوت المال لخدمتها. هذا الإرث الذي نفتخر ونعتز به ونتحدث عنه بطلاقة في كتاباتنا ومحاضراتنا وندواتنا ودراساتنا ومناهجنا يتطلب منا اليوم المحافظة والبناء عليه واستثماره وتوظيفه في تنشيط العمل المجتمعي التكافلي، وفي تحريك القطاع السياحي والثقافي والتجاري وفي توفير فرص عمل متنوعة للشباب والشابات العمانيات، والحفاظ على المشغولات اليدوية والحرفية وربط الأفراد بقراهم وبإرثهم وأعمال آبائهم وتعزيز الانتماء والالتصاق بها ... وقد طرح المقال تساؤلات عن (دور الجهات المختصة وجهودها من كل ذلك؟ ولماذا لا تبادر بالتنسيق مع رجال الأعمال والشركات السياحية والمجتمع المحلي لقيام شراكة
حقيقية ومبادرات تسهم في استثمار المكان (سوق المضيرب ومحيطه) وتعزيز قيمته السياحية وترميم حاراته وبيوته ومعالمه وساحاته وقصوره ومجالسه القديمة وتحويله إلى موقع نموذجي يحكي حياة الماضي
كما هي عليه؟ وإقامة المقاهي الحديثة وتخصيص واحد من تلكم البيوت القديمة وتحويله إلى منتجع سياحي وتنظيم فعاليات ثقافية...الخ؟
ألن يؤدي ذلك إلى ازدحام المكان بالسياح وتنشيط السياحة وتحريك هذا القطاع الحيوي الهام؟) .. وما ينطبق على المضيرب ينطبق على مئات القرى والمدن والواحات العمانية الأخرى. وفي فجر الجمعة السابع من أبريل 2017م، أطلت المفاجأة البهيجة من رحم المبادرة المجتمعية التي قادها شباب المضيرب باستعادة السوق القديم نبض الحياة بشكل تدريجي، وانطلاق نشاطه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بإرادة من أبناء هذه البلدة التاريخية التي أنجبت مئات العلماء والأدباء والشعراء والكتاب والشخصيات الاجتماعية الفاعلة، مؤكدين على أن المجتمع يسبق في كثير من الأحيان ويتفوق على الجهات والمؤسسات الحكومية المختصة والمشرفة بمبادراته وتطلعاته وإنجازاته. المبادرة المجتمعية التي ينظمها ويقودها شباب المضيرب لها العديد من المساهمات الملموسة في خدمة هذه الواحة الغناء خلال السنوات القليلة الماضية، ولكنها لأول مرة تمد يدها إلى السوق القديم فتستنهض الهمم وتخاطب العقول، وتستحث المشاعر وتنجح في جمع شتات إرث اعتقد ورثته بأن رياح الزمن ذرته فلم يبقَ له من أثر إلا ما تحتفظ به ذاكرة من ظل من كبار السن فلم يختطفه الموت بعد، وتمكنت يد هذه المبادرة المباركة من استعادة حياة لا أقول كدنا أن نفتقدها وإنما افتقدناها فعلا، ولولا ذلك ما رأيت بأم عيني محيا شيخ استعادت حياة السوق إشراقة محياه التي امتصتها سنوات عمر تجاوزت الثمانين عاما، وانسحب نشاطه التجاري على نشاط الشيخ الذي شارك الشباب هبتهم وهمتهم وأراد أن تكون له بصماته المتميزة في يوم يؤكد تكرارا ومرارا بأنها ليست ككل الأيام المملة والرتيبة والبطيئة التي مرت عليه في سنواته الأخيرة. (ولولا ذلك) ما عاندت تلك الأم المسنة آلامها وأوجاعها وتغلبت على جسد أنهكته السنون فلم تترك فيه موقعا لم تصبه وتضعفه أو توتره، فخرجت من بيتها الذي لا تفارقه إلا لزيارة طبيب لتشهد بنفسها ما أبلغه به أبناؤها عن نبأ جادلتهم بشأنه كثيرا فلم يفلحوا في أقناعها بصدق خبرهم وما صوروه لها من مشاهد كادت أن تمحى من ذاكرتها إلا بعد أن استقرت بجنب قرينة لها تصغرها ببضع سنوات، افترشت حصيرا تعرض عليه لوازم وأعشاب نسائية من الزمن القديم، فرفعت كفها إلى السماء حمدا وشكرا أن جمعها بهذا اليوم الذي أشعل فيها جذوة نشاط لم تشعر به منذ سنوات. (ولولا ذلك) ما رأيت تلك السعادة تغمر شغاف القلوب والفرحة تكاد تقفز من الملامح والوجوه، والابتسامة شعار اتخذه جميع رواد السوق نساء ورجالا، شيوخا وأطفالا، باعة ومتسوقين، وسواح وزوار جاءوا تلبية للنداء، تجار الأسماك والمواشي، مزارعين حملوا منتجات مزارعهم، حرفيين، مهنيين، صناع الحلوى والأكلات الشعبية المختلفة.. إلخ فرشوا بسطهم رمموا محلاتهم التجارية القديمة، اجتمعوا في مصطبات الدكاكين يرتشفون فناجين القهوة العمانية، أعادوا للسوق مكانته ونشاطه ولوحاته الفنية وأعرافه وتقاليده القديمة وممارساته التجارية ولقاءاته التي تجمع أبناء المجتمع. (ولولا ذلك) ما رأيت ذلك النشاط المتدفق والروح الوثابة والإبداع المتأصل والشعور المتنامي بأهمية العمل التي يتميز بها الشاب الذكي (محيسن) الذي خصص محلا من محلات السوق ليعرض فيه مجسمات السفن التي يصنعها بنفسه أشكالا وألوانا وأحجاما بإتقان يسلب العقول ويبهر المشاهد بتلك الأعمال الفنية الأخاذة التي تؤكد بأننا أمام خامات عمانية تستحق التشجيع وتستحق أن نقف بجنبها، وأن ندعمها لأنها بحق هي مكسب وفخر لعمان. وبالرغم من أن مبادرة المجتمع في المضيرب اشتملت على عدد من الأنشطة والفعاليات تضمنت حملة تنظيف وتشجير واسعتين، وتجمع لتناول وجبة الغداء في (بيت البرج)، وألعاب شعبية ومسابقات للأطفال وعرضة خيل، وأمسية ثقافية، إلا أن نجاح أبناء المضيرب الذين ساهموا بالمال والجهود الشاقة وواصلوا العمل بالليل والنهار لعدة أيام سبقت النشاط الفعلي أو الحقيقي في إعادة نبض الحياة للسوق القديم، وتصميمهم في المضي قدما في تشغيله يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع إلى جانب شهر رمضان المبارك يقدم نموذجا لقدرة الشباب العماني على النجاح وعلى تحقيق المستحيلات، ويظهر جليا تطلعات هؤلاء الشباب وعمق وعيهم وروحهم الوطنية العالية، هذه الروح المتفقة بالحيوية وحب الوطن هي التي تحتاج إلى التشجيع والدعم والتوجيه من مختلف مؤسساتنا الحكومية المختصة ومن مؤسسات القطاع الخاص والمقتدرين ماديا في الولاية للإسهام في ترميم السوق القديم وفق رؤية معمارية عصرية تحافظ في الوقت ذاته على النمط المعماري القديم، ومساعدة الشباب في إنجاح مشاريعهم التجارية والسياحية وتعزيز دور ونشاط السوق. كلمة شكر والتعبير الخالص عن التقدير والاحترام لا تفي بحق أبناء المضيرب الذين أسعدونا بحق بمبادراتهم ونشاطهم وامكاناتهم المتعددة وجهودهم الرائعة وقدموا لنا نماذج أشعرتنا بالاطمئنان بأن عمان بخير والإرث الحضاري في يد أمينة. وبورك عمل العاملين المخلصين لهذا الوطن الغالي.

[email protected]