رحاب

د. أحمد بن علي المعشني ✳
لا تستبعد أن يصير عقلك ساحة للنفايات النفسية والعقلية والروحية، فالبيئة من حولك تمارس التأثير اللاشعوري عليك بدون وعي منك أو إرادة، خاصة إذا كنت ترتاد تجمعات تتعاطى النقد والتفكير السلبي، وتستهلك كثيرا من قواها وأوقاتها في اجترار الأخطاء والنقد والتشنيع على خلق الله، وليست وسائل الإعلام بكل أنواعها بمنأى عن ممارسة شحن العقل بالأحداث والأخبار المزعجة التي تشكل وعي المتلقي وترسم خرائطه العقلية وسياقاته الإدراكية، كما أن عقلك معرض للتلوث من الناس السلبيين الذين تختلط بهم في العمل أو في الأماكن العامة.
قبل ساعات من كتابة هذا المقال احتدم جدال عنيف بين مجموعة من المدونين عبر شبكات التواصل الاجتماعي حول ما يدور في وسائل الإعلام من أخبار وتحليلات وما يبث من مشاهد مزعجة ومخيفة، وغاب عن الجميع أنهم ضحايا لتلك القناة أو تلك، وأن عقولهم وبدون أن يعوا أو يدركوا صارت سلة نفايات، وكان طبيعيا جدا أن ينتهي ذلك السجال إلى مغادرة بعضهم للمجموعة، بل لاحظت في مجموعة أخرى أن الأعضاء بلغ بهم الخلاف والتناكف درجة محمومة من الخصومة والكراهية، وكل ذلك بسبب اختلافاتهم في تفسير وتأويل مقولات تاريخية مضى عليها أكثر من ألف سنة. في ذلك الجو المحموم يصبح صوت العقل خافتا، وتصير طاقة الروح مستهلكة. وللخروج من ذلك يستطيع كل إنسان أن يتدارك ما أصابه من تلوث عقلي وروحي عن طريق مراقبة ما يجري في عقله من أفكار وخواطر، كما وكان يرى ويسمع ويشعر ويفرز الأفكار التي تنشط في عقله. ومن أبسط الخطوات للتخلص من تلك النفايات استدعاء النية الطيبة، فيقرر الشخص أن يتخلص من جميع الأفكار السلبية ويستبدلها بأفكار إيجابية واعية، وأن يكون مستوعبا ومدركا لكل ما يجري في عقله من موجات فكرية. والخطوة الأخرى السهلة جدا تتطلب ممارسة وعي الاستنارة، ويمكن تطبيق تقنيات الاستنارة بالصلاة وقراءة القرآن والذكر والاستغفار، ففي لحظة السجود يستطيع المصلي التخلص من النفايات العقلية والنفسية والروحية واستحضار معية الله لبلوغ مستوى "إن لم تكن تراه فهو يراك" وسوف يساعد هذا المستوى من الوعي السالك؛ لكي يتعانق مع الوعي الفائق الذي يعبر عنه الشاعر السوري بهاء الدين الأميري بقوله: ثم لما سجدت في الروضة الغراء أرمي عن كاهلي عبء ذنبي، خلت قلبي ألقى النياط جذورا، في جنان الهوى لغرسة حبي ، فاتئد يا إمام! لا ترفع الرأس سراعًا، تكاد تجتث قلبي.
فمع كل حركة من حركات الصلاة يستطيع المصلي أن يشحن عقله بالنور ويتخلص من النفايات النفسية والعقلية. كذلك فإن التأمل يتيح للإنسان إعادة ضبط الذات واستعادة السكينة والهدوء التي تمكنه من الغوص في بحر الصمت وتلافيف سكينة الروح. فالتأمل هو اتحاد مع فضاء الوعي الكوني.