[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
الحقيقة التي يجب أن نضعها نصب عيوننا هي أن تونس بعد ستين عاما لم تتقدم بالمشروع البورقيبي والنمط التونسي! فقد كنا نحن وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة في مطلع السبعينيات على نفس مستوى الاستعداد للتنمية والإقلاع بشهادة صندوق الأمم المتحدة للتنمية PNUD حين كانت بلادنا بالضبط تساوي كوريا الجنوبية في المساحة والسكان والكوادر والثروات الباطنية والطاقة والجامعات والقدرة على النمو والتميز...

في الذكرى السابعة عشرة لوفاة الزعيم الحبيب بورقيبة أثار تاريخه كثيرا من الجدل المشروع خاصة وقد أتاحت الثورة حرية التعبير وهذا فضلها الأول. فالتاريخ التونسي ظل حبيس التفسير الواحد على مدى ستين عاما، مما يبرر اليوم سنة 2017 هذه المواقف المتباينة، ولا ننسى مساهمات الأستاذ الزميل د. عبدالجليل التميمي صلب مؤسسته الأكاديمية الخاصة في إنارة أركان مظلمة من تاريخ تونس وتوثيق الشهادات القيمة التي لن ننسى فضل التميمي في إضافتها لأرشيفاتنا الوطنية، كما لا ننسى العمل المتميز الذي تقوم به هيئة الحقيقة والكرامة لتمكين الضحايا والمضطهدين من الإدلاء بشهادات حية ومؤثرة تسلط الأضواء الكاشفة على ما كان يحدث في السر والعلن من مظالم ومكائد، وإعدامات وتنكيل وتعذيب استهدفت آلاف الرجال والنساء من أجل تثبيت الحكم المطلق لكل من بورقيبة وابن علي. وأنا من موقع الشاهد المقرب من كل تلك الأحداث عملت مع بورقيبة عن كثب ووشح صدري بوسامين (الاستقلال والجمهورية) لكني عارضته قبل مسؤولياتي وأنا يافع حين شاركت بحماس طفولي في مظاهرة القيروان الشهيرة والرائدة سنة 1962 من أجل حماية الإسلام، ومنع التنكيل بأستاذنا الإمام عبدالرحمن خليف وسقط فيها برصاص الجيش سبعة شهداء، ثم عارضت نهج بورقيبة وأنا شاب فلوحقت وأوقفت يوم 4 سبتمبر 1969 مع الصديقين أحمد الهرقام وعامر سحنون وهما شاهدان وحقق معنا محافظ الشرطة حسونة العوادي وصودر جواز سفري وأنا طالب، ثم التحقت بالحزب الواحد (لم تكن هناك أحزاب) تعزيزا لصديقي محمد مزالي رئيس الحكومة، وحاولنا أن ننهج في صلب الحزب البورقيبي سياسة الانفتاح على التعددية الحزبية وسياسة تعريب التعليم، وتكريس التعاون جنوب جنوب، وهي خيارات في الحقيقة تتعارض مع مشروع بورقيبة الذي عرفنا أنه تغريبي يرهن استقلالنا لدى الغرب الاستعماري لغة وثقافة واقتصادا. إلى أن جاءت سنة 1986 حيث نشطت ضدنا لوبيات استعمارية ونفينا خارج البلاد مدة 14 سنة كنا فيها مطلوبين من إنتربول وملاحقين بالأقلام الخسيسة تنهش أعراضنا، وتشتت أولادنا في أرض الله، فولد أولادي في المهجر، ولم ألتقِ ابنتي الشابتين إلا بعد تسعة أعوام، ثم لم ألتقِ والدتي المرحومة من سنة 1990 إلى سنة 1999 أي تسع سنوات حتى أني لما دخلت عليها بعد عشرية غياب لم تعرفني وسألت أولادها (من منكم أحمد؟) ويعلم الله كم عانينا في سنوات المنفى الأربع عشرة... فموقعي المأساوي في قلب السياسة فرضته علي أقدار الله تعالى، والحمد لله على المحنة والمنحة وعلى السراء والضراء. أنا أذكر بهذه الحقائق لا تباهيا ولا غرورا بل اعتبارا لأترحم على أرواح شهداء تونس الذين دفعوا أكثر من هذا النزر القليل ولم يبخلوا بأرواحهم الطاهرة مما يدعونا نحن للتواضع والاعتبار. وأنا بعد كل هذه المحن أضحك بمرارة حين أسمع في التلفزيونات ألقاب (المناضل فلان أو المناضلة علانة) تطلق على بعض شبابنا الغض الزغاليل بسبب انتمائهم لهذا الحزب أو ذاك ظنا منهم أنهم يناضلون وهم عن حسن نية يبدأ نضالهم وينتهي عند عقد اجتماع أو المشاركة في نقاش تلفزيوني بسيط. ولكل جيل مفهومه للنضال!
نعود إلى شخصية بورقيبة المزدوجة المعقدة التي أعرفها بعمق لأني على مدى سنوات تحاورت معه مباشرة عديد المرات، وتعرفت على أقرب المقربين إليه، وسجلت شهاداتهم، وسأكتب إذا ما وهبني الله الصحة مذكرات حول هذه الحقائق الصادمة العجيبة! وعجبي اليوم كيف تحيي بعض النخب ذكرى الزعيم لا بعقد ندوات علمية أو بمراجعة الثوابت المدلسة والمفروضة بل بالطواف بالمباخر والصور العملاقة كأنما نحن في جاهلية هبل واللاة والعزى مع محاولات لتوظيف تاريخ الزعيم لاكتساب الزعامات. الحقيقة التي يجب أن نضعها نصب عيوننا هي أن تونس بعد ستين عاما لم تتقدم بالمشروع البورقيبي والنمط التونسي! فقد كنا نحن وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة في مطلع السبعينيات على نفس مستوى الاستعداد للتنمية والإقلاع بشهادة صندوق الأمم المتحدة للتنمية PNUD حين كانت بلادنا بالضبط تساوي كوريا الجنوبية في المساحة والسكان والكوادر والثروات الباطنية والطاقة والجامعات والقدرة على النمو والتميز... والنتيجة سنة 2017 أن مجمل ميزانية الجمهورية التونسية توازي ربع ميزانية سامسونج!!! فتونس راحت ضحية الخيارات الفردية والمصالح الشخصية والعائلية وكبت الحريات ومواصلة (البارانويا) الجماعية إلى يوم الناس، هذا حين ندرك أن أغلب النقاشات السياسوية التافهة التي نسمعها في وسائل الإعلام ليست لها أية علاقة بمشاغل الناس الحقيقية. فكل تاريخ بورقيبة هو سلسلة متعاقبة من افتراس الرجال (وسماه صديقه جون دانيال: مفترس الرجال) بدأ باضطهاد الأسرة المالكة ثم أنصار الزعيم صالح بن يوسف وإيداع المناضل الكبير موقع وثيقة الاستقلال الطاهر بن عمار السجن، ثم ملاحقة أنصار أحمد بن صالح، ثم التنكيل بنا نحن أنصار محمد مزالي، وكان ينوي عام 1987 أن يتعشى بزين العابدين بن علي إلا أن الجنرال تغدى به. الخلاصة أن للزعيم منزلة لا تنكر في تاريخ تونس، لكن إحياء ذكراه إذا ما صدقت النوايا هي بالإيمان بأن بورقيبة إنسان وليس لا ملاكا ولا شيطانا وأنه يخضع ككل إنسان لحكمة الله تعالى في قوله:
(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا*وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا*وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا*وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا*وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا*وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا*وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾