يعرف التراث بأن المرآة لأي شعب من الشعوب، فهو المُعبِّر عن ضميره وفكره وإبداعه، ومسايرته لواقع الحياة الذي هو الآخر كان الدافع الأكبر للشعوب أن تواكبه وتواجه تحدياته، فكانت الحيلة أساسًا لبني البشر لأن يبدعوا في توظيف قدراتهم وطاقاتهم ومقومات الحياة المتاحة لخدمة أنفسهم وتلبية حاجاتهم، وكذلك الترفيه عن أنفسهم، فأصبح ما صنعوه وخلفوه مرآة عاكسة وذاكرة جميلة، بل مصدر فخر تتناقله الأجيال.
فمن منا لا تحدوه الرغبة الجارفة في الاطلاع على نمط حياة أسلافنا ومنجزاتهم، والطرائق التي التمسوها ليعيشوا أعزة كرامًا ويتركوا لأخلافهم شهادة الجودة التي تكون بمثابة إضاءة طريق إلى إنجاز جديد؟ فالتراث الذي تركوه لنا هو الضمير الحي بعد رحيلهم، وهو التراث الذي نفخر به نحن العمانيون أيما فخر، وبما يحمله من إنجازات وابتكارات، حتى تلك الأشياء العتيقة التي نمر عليها مر الكرام إنما هي جزء من شهادة التاريخ عن جيل من أجيال العمانيين الذين عاشوا قبلنا على هذه الأرض الطيبة.
وما يزيدنا فخرًا أن هذا التراث العريق الذي أشع بنوره على العالم عاد يتجدد في عصرنا الحاضر بفضل وعي وحصافة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وإدراك جلالته معنى التراث والحضارة والتاريخ وقيمة ذلك، فعمل منذ الوهلة الأولى على حفظ هذا التراث وصون مكنونه، والتعريف به وتوثيقه، انطلاقًا من رؤيته "من ليس له ماضٍ لا حاضر له"، حيث تفاوتت عملية الحفظ والصون مع مظاهر الاعتزاز، سواء في المتاحف الوطنية أو عبر تسجيلها في قائمة التراث العالمي ولدى منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم "اليونيسكو"، أو تخصيص وزارة تعنى بهذا التراث ألا وهي "وزارة التراث والثقافة".
وما يزيدنا فخرًا أيضًا، هو أن تراثنا العريق لم يعكس فقط الحضارة العمانية وألقها، وأعطى لشعب عُمان هويته الخاصة التي تميزه عن الشعوب الأخرى، وأثرى الجانب المعرفي من خلال ما تركه من علوم، وإنما بات إحدى الركائز للسياحة في بلادنا التي قطعت شوطًا لا بأس في تحريك هذا القطاع واستغلال المقومات التي حبا الله بها بلادنا، ومنها التراث كالقلاع والحصون والصناعات الحرفية المختلفة وغيرها، حيث الخطط والاستراتيجيات الخاصة بقطاع السياحة تنشد تطويره ورفع مساهمته في الناتج المحلي، لكونه مصدرًا من مصادر الدخل.
ولذلك لم تأتِ مشاركة السلطنة العالم احتفاله باليوم العالمي للتراث الذي يصادف الثامن عشر من أبريل من كل عام والذي جاء تحت عنوان "التراث الثقافي والسياحة المستدامة" بهدف تعزيز الوعي بتنوع التراث الثقافي للإنسانية والجهود اللازمة لحمايتها وصونها، لم تأتِ مشاركة صورية أو عابرة، وإنما هي مشاركة تأسست على تاريخ عريق وحضارة ضاربة في العمق، فحق لبلادنا أن تشارك العالم وتسلط معه الأضواء على التراث وقيمته ورصيده الحضاري، حيث أعدت وزارة التراث والثقافة برنامجًا خاصًّا يتناسب مع مكانة الحدث العالمي يتمثل في تنظيم معرض "عين على التراث" الذي افتتح أمس الأول بمشاركة عدد من الجهات الحكومية والمؤسسات التعليمية واشتمل على عروض للتعريف بجهود وزارة التراث والثقافة في مجالات التوثيق وأعمال الحفريات الأثرية، وطرق الترميم والصيانة مع عرض حي للقطع الأثرية المكتشفة من مناطق السلطنة المختلفة، وقدم عدد من المؤسسات عرضًا لمشاريعها البحثية وتجاربها في أعمال التوثيق. وفي تنظيم حلقة تعريفية عن التراث غير المادي افتتحت يوم أمس، في حين سيشهد اليوم الخميس تقديم عرض تعريفي عن أعمال المسوحات والاكتشافات الأثرية في مياه السلطنة، وتفاصيل الكشف عن حطام سفينة أسطول فاسكو دي جاما (السفينة إزميرالدا) التي كشف عنها مؤخرًا. على أن تختتم الفعاليات يوم الثلاثاء الـ27 من شهر أبريل الجاري بتقديم عروض من دائرة القلاع والحصون وجامعة السلطان قابوس ومركز نزوى الثقافي لعرض أعمال مشاريع مسح وتوثيق المساجد في السلطنة وفنون زخرفة محاريب المساجد العُمانية.