إن فقير النفس والأخلاق غالبًا ما يكون طماعًا بطبعه لا يشبع، فالنفس الفقيرة لا تدرك أن الأفعال يجب أن تتطابق مع الأقوال، فلا يمكن أن تكون النفس غنية وغير راضية بما تمتلكه، أما غني النفس يكون قانعًا بما لديه، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة، ولا يلح في الطلب واستغنت نفسه وكفَّت عن المطامع..

حين تتناهى إلى المسامع كلمة الفقر وتدخل إلى مختبر التحليل الفعلي للوهلة الأولى يتبادر للأذهان قلة المال والإمكانيات والضعف المادي, وتستخدم معايير تعكس مفاهيم خاصة بالرفاهية والحقوق والطبقية التي اعتدنا عليها في مجتمعاتنا والتي ترمي إلى التفرقة وتكريس المسافة بين الطبقتين الفقيرة ماديًّا والميسورة.
ولكن مفهوم الفقر مع الوقت تطور مع الوقت بحكم الوقائع المتسارعة وبات يختلف من حضارة إلى أخرى، لأن الفقر لم يعد محصورًا بالمال فهو يطلق أيضًا على الأمية التعليمية والأنفس ذات الميول غير السوية، وكذلك فقر الأخلاق والدين والقوة وصور أخرى عديدة كلها تعني فقد الشيء والحاجة إليه.
أكدت البحوث والدراسات أن الفقر يعد عاملًا من عوامل الانحراف، ولكن اهتمام هذه البحوث ذهب في اتجاه واحد مقتصرًا على نواحي الفقر المادي، فيما أهملت النصوص البحثية الفقر الأخلاقي الذي يعتبر أشد قسوة وأذى بين أنواع الفقر، كونه لا يتوقف عند حالة الشعور النفسي والمعنوي فقط، بل يتعداه إلى خسائر كبيرة معنوية ومادية أيضًا.
إن أغنياء النفوس غالبًا ما نراهم قانعين بالنتائج حتى لو كانت خاسرة، لأنهم مؤمنون بأن الخسارة المادية سوف يتم تعويضها بالجد والعمل، ولكن الخسارة المعنوية، وخسارة الذات والنفس، والشعور بالذل، لا شيء يمحوه أو يعوضه. فكم من فقير لا يملك قوت يومه ولكنه غني بأخلاقه ومبادئه وكم من غني يمتلك ثروات هائلة ولكنه يعاني من فقر في السلوك والأخلاق.
إن فقير النفس والأخلاق غالبًا ما يكون طماعًا بطبعه لا يشبع، فالنفس الفقيرة لا تدرك أن الأفعال يجب أن تتطابق مع الأقوال، فلا يمكن أن تكون النفس غنية وغير راضية بما تمتلكه، أما غني النفس يكون قانعًا بما لديه، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة، ولا يلح في الطلب واستغنت نفسه وكفَّت عن المطامع، فغنى النفس ينشأ عن الرضا بما لديه وما أحسن قول القائل:
غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة ... فإن زاد شيئًا عاد ذاك الغنى فقرًا
الغنى في حقيقته هو الاستغناء عن الآخرين، يربح كرامته وغناه بواسطة عزة النفس وتكريمها والاعتداد بها، ويمكن له أن يكون فقيرًا ذليلًا، إذا اختار الخسارة بنفسه عندما يبقى مكبلًا طول عمره بحاجته للناس.
وفي زخم هذا التدهور السريع للقيم والتدني للأخلاق, وافتقار المجتمعات إلى كثير من الأخلاق والمبادئ, يقع حمل كبير على عاتق الأسر، حيث إن معظمها أصبحت تعمل لرفع معدل الدخل من أجل الرفاهية غافلة عن الجانب السلوكي للأبناء، كما أنها أصبحت ترى أن تفوقهم الدراسي أهم من رسوبهم الأخلاقي, حتى وإن كان تفوقًا بلا أخلاق، ولكن في زمن فقر النفوس الذي يهدد السلم الاجتماعي من الضروري لأولياء الأمور تأمين أبنائهم بسلاح الأخلاق والمبادئ, فهو خير واقٍ من سيل الانحدار الأخلاقي وفقد الهوية، ولا بدّ كذلك أن يكونوا قدوة لأبنائهم, فلا يصح أن ينهي الأبناء عن الكذب وهم يفعلونه فهم المرآة التي ينظر من خلالها الأبناء للحياة.
وأيضًا هناك دور للإعلام ذلك الجهاز الخطير الذي قد يحيي أمة وقد يدمرها، فعلى عاتقه تقع مسؤوليات كثيرة من ناحية الانحدار السلوكي من خلال بث برامج وتمثيليات غير هادفة، حيث إننا نرى قلة اكتراث بتعديل السلوك، وإنما تدس أخلاقيات وسلوكيات خاطئة كألفاظ وكموضوع، بالإضافة إلى أن هناك دور المدرسة في التربية قبل التعليم وفي تربية النشء، لأننا نعتبر المدرسة هي أساس البناء لأي مجتمع.
لا شك أن حقيقة الغنى لا في امتلاك المال بل في غنى النفس وترجمة أدبيات الحياة قولًا وفعلًا, والعيب ليس في مصطلحي الغنى والفقر، ولكن العيب في فقر النفوس لأنه أشد الأنواع ألمًا وصعوبة، وبين أخلاق الفقر وفقر الأخلاق يحيا الإنسان على كوكب الأرض حائرًا وغارقًا في بحور الأمل إلى أن ينتشل نفسه يوما ليحيا حياة أفضل مما يعانيها جراء سقوطه بين ضفتي أخلاق الفقر وفقر الأخلاق.

سهيلة غلوم حسين كاتبة كويتية
[email protected] انستجرام suhaila.g.h تويتر suhailagh1