لارتباطه بالمجتمعات الشرقية
يُعد التراث الشعبي والتاريخ والاهازيج الغنائية ، مصادر مهمة في إنتاج الفنون الباحثة عن الاصالة والمعاصرة، والتي تدخل في مضمار نقاشات طالما أثيرت، وخاصة في مرحلة تأصيل المسرح العربي في أوائل ستينيات القرن المنصرم، حيث سعى الكثير من الكتاب والباحثين إلى توظيف التراث الشعبي بأشكاله وتنوع موضوعاته بغية إثراء العملية الفنية وتأكيد هوية الفنون وربطها بالبيئة العربية.
لذا قدمت الكثير من التجارب المسرحية ، التي استمدت موضوعاتها من المجالات الاجتماعية والدينية.
ولقد تلمس العرض القطري "الخلخال" للكاتب الإماراتي سالم الحتاوي، والمخرج فيصل رشيد، هويته من الأحداث الاجتماعية المقترنة باللغة الشعرية، المستوحاة من روح الشرق، حيث ارتبط "الخلخال" بالمجتمعات الشرقية، وهو عبارة عن قطعة من الجواهر تتزين بها المرأة في المناسبات المختلفة وتوضع حول الساق. ولقد استطاع المؤلف الحتاوي أن يقرن "الخلخال" بموضوع المسرحية بشكل كبير، وخاصة أنه ظل لازمة ارتبطت بشخصية العمل المحورية، المتمثلة في شخصية "مطربة الحي" التي كانت تطرب الحي والتي أدتها الفنانة العمانية غادة الزدجالي. وهي عبارة عن فتاة تنتمي إلى أسرة بسيطة، كانت تكسب قوتها من الغناء والرقص في الأعراس والحفلات السعيدة في المجتمع، ثم يتضح أنها فتاة يتيمة قامت بتربيتها إحدى العائلات، وتتسارع الاحداث عجلى، لتتضح طبيعة علاقة المطربة بالشاعر الذي ينتمي إلى عائلة ذات حسب ونسب، والذي كان يعاقر الخمر ليل نهار، فهو مدمن على الخمر، ولا يلبث أن يشرب حتى يعاود الشرب مرة أخرى. ورغم بساطة القصة، إلا أن المخرج بحث عن أشكال إبداعية، حاولت الالتفاف حول روح النص الشعرية ، مع محاولة التؤغل في بواطن شخصياته، والتي كانت تتكشف للمشاهد مع تطور الأحداث، فبعد أن كانت الراقصة، مجرد طيف أو مجرد حلم عابر، أصبحت حقيقة ماثلة، تبحث عن ذاتها الحالمة، باحثة عن ذاتها الموجوعة، والتي لازمتها منذ كانت طفلة صغيرة، تلبس "الخلخال" والذي أصبح لازمه طيلة أحداث العرض. كما استغل المخرج المسرحي "فيصل رشيد" الفضاء المفتوح بشكل يخدم العرض، فهو فضاء ممتد وواسع، بغية أن يصنع منه لوحة جمالية تشع بالوهج الإنساني، والذي ساعد على تفجير طاقات الممثلين، وإثارة خيال المتلقي، لذا وقعت على المخرج مهمة كبيرة، تتمثل في البحث عن الطريقة التي يمكن أن يتخلص بواسطتها من قيود النص العتية، والتي ألقت بظلالها على حوار الشخصيات، حيث كان النص مكتوبا بلغة شعرية سردية، يصعب تقديمها على المسرح، إلا بعد تدريب الممثلين بالشكل الصحيح . لقد اتضحت مقدرة المخرج على التواصل مع شخصية "مطربة الحي" والتي اشتركت في الاداء معه. واستطاعا المحافظة على إيقاع العمل ، وتقديم الشخصيتين بطريقة تنم عن وعي كامل بتفاصيل حياتها، وأبعادها الغائرة بين منطقة الحلم أو منطقة اللاوعي حيث الحلم والطفولة، والتي جمعت بين حسن الشاعر وصوت "الخلخال" ، الذي ظل راسخا في ذاكراته، كونه ظل مرتبطا بأحلام الطفولة والايام التي مضت. وفي المقابل، برز الصراع في بنية المجتمع الاجتماعية ، ذات الصلة بالعادات والتقاليد الرافضة لقضية زواج ابن العائلة ذات الحسب والنسب من "مغنية الحي". وظل العرض حبيس "الخلخال"، ولم يركز كثيرا على مسألة رفض المجتمع للغانية، ولكنه بحث عن الفجوات التي ظلت قاتمة في أعماق الشخصيتين اللتين كانتا تتكشفان أمام المشاهد الواحدة تلو الأخرى. لقد اهتم العرض بمفردات السينوغرافيا البصرية التي بسطت العمل، وساهمت بدور فاعل في تسليط الضوء على الشخصيتين المحوريتين بمؤازرة الإنارة التي كانت تتغير وتتلون وفق الحالة النفسية للشخوص في تواتر زماني ومكاني ، فيما قاسمت الدوائر الثلاث التي صممها مهندس الديكور، تلك الجماليات بغية تجسيد الفعل، وتجزئتها ، إلى جانب ذلك فقد كان الديكور ملاذا لذات الشخصيات ، حيث استطاع الديكور ـ رغم بساطته ـ استيعاب الشخصيتين، والتعبير عن أحلامهما الضائعة منذ زمن بعيد. فيما استطاعت الموسيقى ان تعطي جمالية شاعرية، نقلتنا إلى عالم "الخلخال" ، الذي لم يخل العرض من صداه الغائر في أعماق الذاكرة الإنسانية التي جعلتنا نتساءل ، هل ما يعيشه بطلا العرض حلم أم حقيقة؟! وهل ما زال الخلخال مرتبطا بالمرأة في عصرنا الحالي، أم أنه أصبح في عصر لا يعرف مثل هذه المفردة، والتي اندثرت مع الأيام وأصبحت مجرد عنصر مرتبط بواقع التراث العربي والشرقي، الذي لا زالت الفنون العربية تنهل منه.

عزة القصابية