1:
بـ (كان) ، مفتتح القيل وسحره ومنبعه ، كان بما لها من سطوة ، وحضور في تاريخ الحكي والقص العربي ، وبما لها من مقدرة هائلة ، على جذب القلوب ، قبل الآذان ، وبما أتيح لها من أياد سحرية على فتح الأبواب المغلقة والمستعصية على الفتح والولوج بعيدا ، في دهاليز السحر والجمال والجاذبية .. بـ (كان) يشرّع حمود بن وهقه اليحيائي أبواب قصيدته التي اختار لها عنوانا " دعوة الى التعايش "(1) ، التي تفاعل معها جمهور الشعر العريض ، بدءا من رجل الشارع البسيط ، وصولا أرباب الشعر ومتذوقيه ونقاده ، بـ (كان) .. كان التي تحرر عفريت الشعر من أسره ومكمنه وبياته الطويل ، وتخرجه من ضيق قمقمه العتيق الى رحابة المدى ، من سجنه في كهف جرنان النائي الى فسحة الكون برمته ، شاقا فلول الظلام ، معلنا عن بزوغ نهار جديد ، معرجا على " أماكن ، وشخصيات تاريخية عمانية دون تقريرية أو مباشرة فجة "(2)
كان
كان ياما كان ..
وتتزحزح الصخرة عن فم المغارة
كان
كان ياما كان ..
كان
كان الحكي مسجون(3) في كهف ( جرنان )(4)
شق الظلام وشب سنة وسنة
تلاحق بسرب القوافي والأوزان
حتى تفرد وانشدوا الغيم عنه
حلمه مدى وعزوم الأجداد جنحان
يكفخ بصوتٍ خيب الرعد ظنه
كان الحكي مسجونا ، وشيئا فشيئا أخذت الصخرة الجاثمة على فم المغارة أو الكهف تتزحزح رويدا رويدا ، تاركة الفسحة لطائر الكلام والقول ( الحكي ) ، هذا الطائر النوراني ، للانبعاث من جديد ، شاقا ظلام الصمت الجاثم ، مشعلا فوانيسه ، فانوسا ، فانوسا ؛ ليحلق في سماء القصيدة ، سماء القوافي والأوزان ، بحثا عن التفرد والتميز ، وقد كان له ما أراد وما سعى حثيثا من أجله ( حتى تفرد وانشدوا الغيم عنه ) .
وها هو ، كما ترون ( او كما تسمعون ) ، يتسامى محلقا ، بكامل عنفوانه وروعته وبهائه ، في مدى الحلم اللا منتهي ، مستمدا ، من عزم السلف الصالح وماضيهم التليد ، ومسيرتهم الخالدة ، جناحية ( وعزوم الاجداد جنحان ) وصوته ( يكفخ بصوتٍ خيب الرعد ظنه ) ؛ صوت يأتي هادرا كشلال يتدفق جارفا من أعالي الجبال ، مجلجلا كرعد أو كأشد من الرعد ، حاملا حكمته ، وكلمته الفصل ، بل صرخته المدوية ، في وجه المتاجرين بدم الصحابة ، شاهرا نهيه وزجره كسيف :
خلوا جسد ( عثمان ) في قبر عثمان
كافي وحوش الألسنة ينهشنه
اتاجروا بدم الصحابة الى الآن
من حكموا المصحف بروس الأسنة
سم التعصب لا تمكن بالاوطان
جروا على أطلال الأوطان ونة
صرخة سيتردد صداها كثيرا ، علها تجد قلبا بصيرا ، وعقلا نيرا ، أذنا صاغية ، ( خلوا جسد عثمان ) وهنا النبش ، ومن بعده النهش نهش مجازي ، حيث الألسنة ـ لا الأيدي والأنياب ـ وحوش تمارس بشاعة الخوض والانخراط في النيل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ذكر عثمان الا على سبيل التدليل ليس الا ، وها نحن نجد أنفسنا ، كأمة ألف الله بين قلوب أبنائها ، في خضم محنة وابتلاء شديدين حيث " ان كبار مفكري الأمة على مر العصور ، لم يستطيعوا مقاومة جاذبية هذا الصراع الذي يبتلع ما حوله كما تفعل الثقوب السوداء ، وانخرطوا شعوريا ولا شعوريا بقضهم وقضيضهم في المشاركة في هذا الصراع المتمثل في الحرب الضروس بين المدارس الاسلامية المختلفة بسبب الخلاف حول مواقف الصحابة " (5) ، ليستشري التعصب سما قاتلا في جسد الأمة ( سم التعصب ) يعيث في أوصالها هدما وفتكا فـ " كل ما تعانيه الأمة الاسلامية في حاضرها بل وكل ما عانته في ماضيها ليس الا امتدادا طوليا للمحنة التي ألمّت بالأمة نتيجة الصراع السياسي بين الصحابة من اللحظة التي فارق فيها النبي ، صلى الله عليه وسلم ، الحياة " (6)
يا طير أمناك من طيش الانسان
لحنك دفا يا طير .. أرجوك غنه
هذا الصوت الواعي ، البصير ، الذي يدعو الى نبذ التعصب ، والتطرف ، هو ما يتوق الشاعر الى سماعه ، ويطرب لألحانه الشجية العذبة ، فيستحلفه ( أرجوك غنّه )
ولعل الشاعر ، بل أكاد أجزم ، هو ذاته الطائر المغرد ، الداعي للألفة والسلام ، ودين المحبة ، كيف لا وهو ابن من أبناء عمان العظيمة ، هذا البلد الموغلة جذوره في أعماق التاريخ ، صاحب التقاليد الراسخة والعريقة ، هذا البلد الداعي للسلام والحب ، تحت رعاية سلطان المحبة ، القائد المحنك ، الفذ .
الأبيات الآتية ، وبفنية عالية ، متساوقة مع الرتم التصاعدي للقصيدة ، تتغنى بعمان ، وبخيارها القديم / الجديد ، السلم ( طير السلم يصدح بالأغصان – بنادقنا استحن يقنصنه – نحشي البنادق ورد – عشنا قبل لا يهتدي مازن اخوان ) لكنه ، السلم كخيار ، سلم من موقع القوة ، ليس بذلك السلم الذي يمليه الجبن ، أو يفرضه الضعف ( لكننا بوجوه الأعداء نيران – في حكمته ضدين نار وجنة) وبسخرية العارف بأي أرض يدوس ( يا معتدي سيف الخشب لا تسنه !! ) فكل السيوف لا تعدو أمام بسالة هذا الشعب العظيم ، الذي عجنت عوده نوائب الدهر ، أكثر من سيوف خشب !! ، مترددة ، وبلا فاعلية .
فـ عمان طير السلم يصدح بالأغصان
حتى بنادقنا استحن يقنصنه !!
نحشي البنادق ورد ويثور بستان
فوق السحاب ونذهل انس وجنة
لكننا بوجوه الأعداء نيران
يا معتدي سيف الخشب لا تسنه
عشنا قبل لا يهتدي مازن أخوان
هل نفترق ونفوسنا مطمئنة ؟!!
حشا ومن أرسى على عمان سلطان
في حكمته ضدين نارٍ وجنه
واللي بذر فتنة حصد ثمر خذلان
ما دام شينات النوايا سقنه
هذا الخيار، خيار السلم ، يدعمه السلطان قابوس ، السلطان الحكيم ، رجل السلام الأول بامتياز ، الذي أذهل بحنكته البعيد قبل القريب ، واضحى مثلا يحتذى ، ومنارة يهتدي بها من ظل سواء السبيل .
هذي عمان ان كنت ما تعرف عمان
قلوبنا ثوب التطرف رمنه
نعانق المسجد بعد صوت الآذان
ونسجد اباضية وشيعة وسنة
يصدح طائر / شاعر السلام بملء فيه : ( هذي عمان ان كنت ما تعرف عمان ) بعيدة أشد البعد عن التطرف والتعصب باسم الدين ، تنبذ الفرقة وتبغض الشتات ، وتدعو الى لم الشمل والاعتصام بحبل الله المتين .
( نعانق المسجد ) ولكم أن تتأملوا في رهافة الشاعر وحساسيته في اختيار مفرداته ، حيث لم يقل نذهب الى المسجد مثلا ، فالعلاقة بين المسجد والمسلم علاقة حبيب بحبيبه يؤثثها العناق الذي لا يتأتى الا بوازع الحب ، هنا يحضرني هذا البيت الشهير للشاعر الصوفي الكبير ابن عربي " أدين بدين الحب أنا توجهت ركائبه فالحب ديني وايماني "
ليغدو المسجد واحة حب ، يأتلف تحت قبته المسلمون جميعا ، سواسية كأسنان المشط ، لا فرق بينهم الا بالتقوى والصلاح .
باتت قصيدة حمود بن وهقه نشيد سلام يردده الجميع ، هذه القصيدة التي أصبحت على كل لسان ، يتغنى بها الصغير قبل الكبير ، نصبت حمود بن وهجه شاعرا نجما في سماء الشعر الشعبي .
وبرغم الموضوع الشائك الذي تناولته القصيدة الا أنها لم تنزلق لهاوية النثر وفجاجته ، فحافظت على شعريتها وتصاعدت فنيتها وتنامت بصورة رائعة ، فحفلت القصيدة بجميل الصور :
- جروا على أطلال الأوطان ونة : استبصار واستباق ، ورؤية مستقبلية لما يمكن أن يخلفه التعصب في الأوطان والشعوب في حال تمكنه واستشرائه .
- بنادقنا استحن يقنصنه : هذه الصورة الرائعة التي تؤنسن الجماد ( البنادق ) وتضفي على البنادق صفة الانسان الذي يراجع نفسه ويحاسبها ، ويتراجع عما أقدم عليه من نية مبيتة تتمثل في القنص والقتل وسفك الدماء .
- نحشي البنادق ورد : وحسب هذه الصورة لتعبر أبلغ تعبير عن توق العمانيين للسلام والمحبة ، فعوضا عن أن يحشوا البنادق بارود الفرقة والكراهية يقومون بحشوها ورد المحبة الأبعد أثرا .
- يا معتدي سيف الخشب لا تسنه : شطر فيه من السخرية والتهكم والمقابلة ما فيه .
- نعانق المسجد : علاقة الحب المتينة التي تربط المسلم بالمسجد .
2 ) :
يبقى ، وهذا ما يجرى تناوله بداية ، العنوان " دعوة الى التعايش " حيث يضع العنوان ، كعتبة أولى من عتبات النص ، القارئ ، في أول الطريق ، ليضع الخطوة الأولى في خط السير ، وهو ما نجح فيه عنوان بن وهقه ؛ بيد أن العنوان ، بموازاة الفنية العالية للنص والرتم التصاعدي وسلاسة الانتقال ، لم يكن بتلك الفنية ولم يمتلك عنصر التلميح الفني ، ليترك للقارئ ، فرصة قراءة التأويلات التي يمكن أن ينطوي عليها العنوان قبل الولوج في أروقة النص .
ويبدو ان الشاعر لم يل العنوان عناية توازي عنايته بالنص ذاته ، ولم يتعب نفسه كثيرا في البحث عن عنوان يحمل فنيته ، وإلماحته ، وينطوى على تأويلات عدة .

الهوامش :
( 1 ) القصيدة التي قرأها الشاعر في ظهوره الأول في مسابقة شاعر المليون، الموسم السادس .
( 2 ) مسعود الحمداني ، شرفات العدد 444 ، جريدة عمان 18 مارس 2014 م .
( 3 ) المصدر السابق .
( 4 ) كهف يوجد في ولاية ازكي بداخلية عمان ، تنتفض بمجرد ذكره الكثير من الأساطير والحكايات ، لعل أكثرها اثارة وجود عجل ذهبي ، تحرسه الجن والشياطين ، بداخله
( 5 ) زكريا المحرمي ، الصراع الأبدي .
( 6 ) المصدر السابق .

حمود الحجري
[email protected]