كان مفهوم الوطن في نفس العربي عزيزاً غالياً ، وإذا كانت الأخبار والروايات التاريخية تظهر ذلك العربي وكأنه في نُقْلَة دائمة وتَرْحال مستمر ، فإنّ اللغة تشهد ، بما حفظته لنا من مشاعره الرقيقة الصادقة وتحنانه ، أنّ حبّه لوطنه كان يفوق ما يعتلج في صدره من ألوان الحب الأخرى. ولكنّ مفهوم الوطن عنده لم يكن متّفقاً في دلالته تماماً مع ما يعنيه بالنسبة لنا اليوم ، إذ كان معنى الوطن في الأصل : البيت ، أو محلّ الإنسان. وقريب منه في المعنى ومشاكلة الحروف: الوطء فهو يدل على تمهيد شيء وتسهيله ومنه يقال: وطّأت له المكان ، والوِطاء: ما توطّأت به من فراش ، وكذلك يمكن أن تجد في (وطد) ما يدل على تثبيت شيء بوطئك حتى يتصلّب ، ويرى بعض اللغويين أيضاً أنّ في (وطس) معنى يدل على وطء شيء حتى ينهزم ، أي يتطامن ، مما يوحي بأنّ هناك صلة عامة بين هذه الأصول يستخلص منها تسوية مكان للاستقرار على نحو مريح ، وهو أمر تفعله الحيوانات غريزياً بتمهيد المكان بأرجلها ، ونفي الحصى عنه ، ثم تستقر وترتاح ... وبالإقامة تحصل الألفة فيرتبط الإنسان بكل ما حوله ويحبه ما لقي فيه الأمن والراحة ... ويصبح وطناً محلَّ شوق دائم نزَّاع ، ومبعثَ ترجيع يصدى أبداً في القلب والذاكرة :
أَلا لَيْتَ شِـعْرِي هَلْ تَحَنَّـنَّ ناقتي
بِبَيْضَاءَ نَجْـدٍ حَيْثُ كَانَ مَسِـيرُها
بِـلادٌ بِها أَنْضَيْـتُ رَاحِلَةَ الصِّبـا
ولانَتْ لَنـا أَيَّامُهـا وشُهُورُهــا
فَقَدْنَا بِها الهَـمَّ المُكَـدَّرَ شُرْبُــهُ
وَدَارَ عَلَيْنَا بِالنَّعِيـمِ سُـرُورُهــا
ويحن أعرابي إلى موطنه فيقول:
أَلا هَـلْ إِلى سَـرْحٍ أَلِفْـتُ ظِلالَـهُ
وَتَكْلِيمِ لَـيْلَى مَا حَييتُ سَبِيـلُ
ويقول آخر يأمل في عودة تدخل إلى قلبه العزاء والسلوان قبل أن يفارق الحياة:
أَلا هَلْ إلى أَجْبَالِ صُبْحٍ بِذِي الغَضَـا
غَضَا الأَثْلِ مِنْ قَبْلِ المَمَـاتِ مَعَـادُ
بِـلادٌ بِهـا كُنَّـا ونَحْنُ نُحِبُّهـا
إِذِ الأَهْـلُ أَهْـلٌ والبِـلادُ بِـلادُ
ويحنّ البديع الدمشقي إلى بلاد الشام ويستنشق على البعد ريّاها فيقول:
يَا نَسِيمـاً هَـبَّ مِسْكـاً عَبِقـاً
هَـذِهِ أَنْفَـاسُ رَيَّـا جِـلِّـقَــا
ومما حفته لنا اللغة من صدق الشوق إلى الوطن وعمقه قول أشجع بن عمرة السلمي :
بِـأَكْـنَافِ الحِجَـازِ هَـوًى دَفِينُ
يُـؤَرِّقُـني إِذَا هَـدَتِ الـعُيـونُ
أَحِـنُّ إلى الحِجـازِ وسَـاكِنِيــهِ
حَنِينَ الإِلْفِ فَـارَقَـهُ القَرِيــنُ
وأَبْـكِي حِينَ تَرْقُـدُ كُـلُّ عَيـْنٍ
بُـكَـاءً بَيْنَ زَفْـرَتِـهِ أَنِـيـنُ
وأما الصَّمَّة القُشَيْرِي فقد وُجِدَ في بلاد فارس ـ وكان قد خرج في عسكر المسلمين ـ مطروحا ويعالج سكرات الموت وهو يردّد:
كَـأَنَّ فُـؤادي مِن تَذَكُّـرِهِ الحِمَى وأَهْلِ الحِمى يَهْفُو بِـهِ ريشُ طـائِـرِ
أما اليوم فقد اكتسبت لفظة ( الوطن ) معنى جديداً ، وإن كان لا يبعد من حيث الجوهر عن معناه القديم الذي قصده المتنبي في قوله :
بِــمَ التَّـعَـلُّـلُ لا أَهْـلٌ ولا وَطَــنٌ
ولا نَـدِيـمٌ ولا كَـأْسٌ ولا سَـكَـنٌ
فهو في أبسط تعريفاته : تلك الحدود المرسومة على الخارطة بحيث إذا ما تجاوزتها دخلت وطناً آخر ليس بوطنك ، وإن سكنه أخوك وابن عمِّك . وصار وطنك يربطك بمن لا يمتّ لك بصلة في العِرق مثلاً ، ولا في الثقافة ، بل قد يكون مواطنك مَن يتحدّث بغير لغتك. وقد لا يقرّك في دينك ولا يعترف بثقافتك.

د.أحمد بن عبدالرحمن
بالخير استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]