[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
أدرك عاهل البلاد منذ اليوم الأول الذي وضع فيه الخطوط الرئيسية لمسيرة نهضة هذا الوطن العزيز أهمية ودور توطيد ثقة أبناء هذا الوطن بتلك المؤسسات الرسمية والمسؤولين القائمين عليها باختلاف مناصبهم, وفي الخدمات التي تقدمها حكومتهم, وفي أهمية التقارب والتلاحم والتكامل والتعاون والتشارك بين أبناء هذا الوطن العزيز وتلك الشخصيات التي نالت الثقة السامية لتتحمل مسؤولية العمل والسهر على خدمتهم ورعايتهم...

لماذا نكرر الحديث بشكل دائم ومتواصل حول مسألة أهمية توطيد ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة وبالمسؤولين القائمين عليها؟ ولماذا يهمنا ويقلقنا كثيرا مثل هذا النوع من القضايا التي تدخل في صلب العلاقة بين أطراف البناء الوطني؟ ما هي المخاطر التي يمكن أن تحدث "لا قدر الله" نتيجة تراجع منسوب ثقة المواطن بتلك المؤسسات الحكومية التي وجدت أصلا لخدمته وخدمة وطنه, في بيئة وطنية تتعرض حالها كحال أغلب دول العالم للكثير من المتغيرات والتحولات والمخاطر العابرة للحدود الوطنية؟ وقد اخترنا جانب الثقة بين المواطن والحكومة خصوصا لأنهما من أكثر الجوانب التي تتعرض للإصابة عند ملامسة بعض المسائل المرتبطة بها في مجمل تلك العلاقة الوطنية التي لا محال ولا بد من تجانسها وتفاهمها وترابطها حتى يمكن أن تستمر وتتقدم بشكل صحيح وهادئ لا يشوبه شك أو ريبة أو قلق بين تلك الأطراف في البيئة الوطنية.
للإجابة على هذا السؤال لم أجد أفضل من ذلك الحرص والاهتمام الذي اتضح من خلال تلك التوجيهات السامية المتكررة والمستمرة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ التي جعلت من مسألة الثقة بين المواطن ومؤسسات دولته على رأس قائمة الأولويات الوطنية, بل وكانت من بين أكثر القضايا التي اهتم بها وحرص على تعزيزها وتكرار الحديث عنها وتوجيه النصح والإرشاد حولها لمختلف أطراف البناء الوطني. خصوصا أفراد الجهاز الإداري للدولة.
حيث أدرك عاهل البلاد منذ اليوم الأول الذي وضع فيه الخطوط الرئيسية لمسيرة نهضة هذا الوطن العزيز أهمية ودور توطيد ثقة أبناء هذا الوطن بتلك المؤسسات الرسمية والمسؤولين القائمين عليها باختلاف مناصبهم, وفي الخدمات التي تقدمها حكومتهم, وفي أهمية التقارب والتلاحم والتكامل والتعاون والتشارك بين أبناء هذا الوطن العزيز وتلك الشخصيات التي نالت الثقة السامية لتتحمل مسؤولية العمل والسهر على خدمتهم ورعايتهم، وتوفير سبل الراحة لهم وتذليل الصعاب ومشقة الحياة أمامهم. ولأنه في الجانب الآخر. أي جانب انعدام الثقة أو تراجع منسوبها في العلاقة بين المواطنين والمسؤولين في الدولة تكمن كل المخاطر الأمنية والسياسية. وهو أمر بديهي, فكلما ارتفع منسوب الثقة في تلك العلاقة ارتفع معه منسوب الأمن والاستقرار الوطني. وكلما تراجع ذلك المنسوب تفاقمت معه مختلف التحديات والعقبات الأمنية والسياسية.
وليس غريبا على أب وقائد كحضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم أن يبدأ حكمه ـ أدامه الله ـ بمسألة تعزيز الثقة بين الحاكم والمحكوم والشعب وحكومته. فهو يعي ويفهم تمام الفهم والإدراك ماذا تعنيه أهمية المحافظة على تلك الثقة في توطيد الاستقرار واستتباب الأمن والأمان وترسيخ أصول الدولة على قواعد مستقرة وثابتة في أعماق السياسة وأصول الحكم المستنير. وقد بدأت الإشارات الأولى لهذه القضية تبرز مع بواكير خطاباته وكلماته الموجهة لأبناء عمان, وهو ما يتضح جليا في البيان التاريخي الأول يوم تسلمه زمام الحكم في الـ23 من يوليو من العام 1970م، وفي أول فقرة من ذلك الخطاب حين بدأ عهده بوعد قطعه على نفسه أولا لأبناء وطنه قائلا: (وإني أعدكم أول ما أفرضه على نفسي أن أبدأ بأسرع ما يمكن أن أجعل الحكومة عصرية، وأول هدفي أن أزيل الأوامر غير الضرورية التي ترزحون تحت وطأتها).
وهو خطاب يتضمن العديد من الرسائل التي تتعلق بالإدارة العامة وأصول الحكم والسياسة. يقع على رأسها: أن القائد يجب أن يكون هو القدوة في تنفيذ الأوامر والالتزام بها قبل تابعيه, وأنه أول من يفترض أن يتقدم قافلة الموظفين العاملين على خدمة هذا الوطن وأبنائه. وقد كان لمسألة إزالة كل عوامل الخوف والشك وعوارض الثقة التي ترسخت عبر سنوات من الأوامر غير الضرورية ـ كما وصفها جلالته ـ دور كبير وهام للغاية في تأكيد التزامه بهذا الجانب من توثيق الثقة بين الحكومة والشعب.
كما أنه وفي الخطاب الثاني له ـ أعزه الله ـ بتاريخ 30/يوليو/1970 بمناسبة وصوله إلى مسقط لأول مرة بعد تولي جلالته مقاليد الحكم قال مؤكدا وموجها على ما سبق التطرق إليه من مفاهيم الثقة وضرورة الترابط بين أطراف العلاقة الوطنية: (.. بدون التعاون بين الحكومة والشعب لن نستطيع أن نبني بلادنا بالسرعة الضرورية للخروج بها من التخلف... إن الحكومة والشعب كالجسد الواحد. إذا لم يقم عضو منه بواجبه اختلت بقية الأجزاء في ذلك الجسد). كما أكد ذلك صراحة في خطابه المباشر والذي وجهه إلى كبار رجال الدولة من وزراء ومسؤولين في الخامس عشر من شهر مايو من العام 1978م, والذي يعد بحق أقرب إلى مواد دستور سبر أغوار النفس البشرية من الناحيتين النفسية والذهنية ليستخرج منها تلك الحلقة الرئيسية أو حلقة الوصل التي تربط استقرار الدول وتوطيد أركان الحكم بها وترسيخ الأمن والأمان بالمواطن نفسه, وـ بمعنى آخر ـ أن ثقة أبناء الوطن بمؤسسات دولتهم وبالقائمين على إدارتها هي أهم ركائز الاستقرار وصمام الأمن والأمان لهذا الوطن, وهو ما يؤكده ـ رعاه الله ـ في قوله ((لقد أولانا شعبنا منذ تولينا أموره ثقته الكاملة بنا, ومن خلال ثقته هذه, وثق بمن اخترناه ‏ونختاره لتولي المسؤولية لإدارة مصلحته العامة, ولذا فإن علينا وعليكم المحافظة على هذه الثقة ‏وعدم التفريط بها)).
ويواصل ـ حفظه الله ورعاه ـ خطابه سالف الذكر بقوله: ((لقد جمعناكم اليوم من وزراء ووكلاء ومدراء لنوجه إليكم النصح والإرشاد فيما يجب عليكم القيام ‏به لأداء رسالتكم في خدمة هذا الوطن الغالي, بالطريقة التي ترضي الله ورسوله, وترضينا ‏وترضي المواطنين الذين أولونا ثقتهم)), وهنا يؤكد من جديد على أهمية المحافظة على مسألة الثقة بين الحاكم والمحكوم من جهة, والمواطن ومؤسسات الدولة من جهة أخرى, وربطهما برضا الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام، ومن ثم رضاه ورضا أبناء هذا الشعب الكريم, ليضع بعدها, وانطلاقا منها, أهم قواعد وأصول السياسة الوطنية المستقبلية التي يفترض أن يتم التعامل بها ومن خلالها بين المسؤولين في الدولة والمواطنين, موضحا بعقلية الحكيم, موجها حكومته القائمة في وقتها وتلك القادمة إلى أهم الوسائل الحقيقية للحفاظ على الوحدة الوطنية وترابط المجتمع وترسيخ الاستقرار والأمن الأمان الوطني بقوله: ((إن السياسة التي اخترناها وآمنا بها هي دائمًا وأبدًا التقريب ‏والتفهم بين الحاكم والمحكوم, وبين الرئيس والمرؤوس, وذلك ترسيخا للوحدة الوطنية وإشاعة ‏لروح التعاون بين الجميع, أكان ذلك بين من يشغلون المناصب العالية في الحكومة وبين معاونيهم ‏والعاملين معهم أو مع بقية المواطنين)).
ليقف بعد هذه المسألة – أي – مسألة المحددات والقواعد الوطنية الداخلية لسياسات الدولة المستقبلية ودور الثقة في علاقة الحكومات القائمة والقادمة بمواطنيهم، وارتباط ذلك بمسألة الاستقرار والأمن الوطني, على تأكيد معيار تلك العلاقة سالفة الذكر وأهميتها الوطنية, وتوجيه له ما بعده من مرئيات راسخة وثابتة لا يجب التهاون أو التفريط بها من قبل أي من مسؤولين هذا الوطن العزيز, ويجب أن توضع نصب أعينهم, وفوق رُؤوسِهِم وعلى طاولات مكاتبهم بشكل دائم, تلك القضية هي طبيعة العلاقة بين مسؤولين الدولة بمختلف قطاعاتها وأبناء هذا الوطن الذين وجدوا أصلا لخدمتهم ورعاية مصالحهم, وفي هذا السياق يقول جلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه:((وهناك أمر هام يجب على جميع المسؤولين في حكومتنا أن يجعلوه نصب أعينهم, ألا وهو أنهم ‏جميعًا خدم لشعب هذا الوطن العزيز)).
ويواصل ـ حفظه الله ورعاه ـ تأكيد ذلك من خلال معايير إثبات تلك الثقة السامية الوطنية بهم, والتي حددها بالإخلاص والتجرد من الأنانيات وتقديم المصلحة الوطنية أو مصلحة الأمة العمانية على المصالح الشخصية أو غير ذلك من المصالح الفردية, وـ بمعنى آخر ـ أن الوطن والمواطن هما رأس المال وهما الفائدة الوطنية والغاية القصوى لمختلف سياسات الدولة الحالية والمستقبلية, فقال: ((وعليهم أن يؤدوا هذه الخدمة بكل إخلاص، وأن يتجردوا ‏من جميع الأنانيات، وأن تكون مصلحة الأمة قبل أي مصلحة شخصية)), ثم يؤكد على أن التهاون أو التفريط في تنفيذ تلك الأهداف والغايات الوطنية والسياسات العليا التي أرادها وعمل على ترسيخها ـ أي ـ خدمة الوطن وأبنائه من قبل من وثق بهم جلالة السلطان المعظم وأولاهم ثقته الوطنية السامية غير مقبول أبدا, ولا يمكن التهاون به, وأنه سيترتب عليه الجزاء والمحاسبة, فقال: ((إذ إننا لن نقبل العذر من ‏يتهاون في أداء واجبه المطلوب منه في خدمة هذا الوطن ومواطنيه, بل سينال جزاء تهاونه ‏بالطريقة التي نراها مناسبة)).
ثم يواصل ـ حفظه الله ورعاه ـ توجيهاته السامية للوزراء والوكلاء والمديرين بضرورة الاطلاع ودراسة القوانين والمراسيم المشرعة والمحددة لطبيعة تلك العلاقة والمحافظة عليها بينهم ومؤسسات الدولة التي يديرونها ومساعديهم من جهة والمواطنين من جهة أخرى, وهو في وقتها لا يتكلم عن لحظات آنية أو لحظية بقدر ما هي توصيات وتوجيهات كريمة دائمة ومستمرة منذ الحكومة القائمة وحتى القادمة منها بقوله: ((لقد وضعت قوانين لهذه الدولة بموجب مراسيم سلطانية صدرت ‏بشأنها وتصدر من حين لآخر, وذلك للمحافظة على مصالح هذا الشعب, فعليكم أن تدرسوا هذه ‏القوانين كل في مجال اختصاصه دراسة وافية، وأن لا تتجاوزوا في المعاملات أي نص لتلك ‏القوانين, بل يجب التقيد بها واتباع ما جاء في نصوصها)).
ثم يتطرق للمفهوم والمعنى الذي أراده وقصده من الوظيفة العامة التي أوكلها لمن اختارهم لإدارة شؤون الوطن بوجه عام ومصالح أبنائه على وجه الخصوص, فأكد ـ حفظه الله ورعاه ـ أن الوظيفة الوطنية هي تكليف ومسؤولية وليست صك أو ملكية نفوذ أو سلطة سلمت لمن نالتهم الثقة السامية الكريمة, وأنه يجب عليهم أن يكونوا قدوة لإخوتهم من المواطنين في الشرف والأمانة والإخلاص والعطاء والوطنية واحترام العمل, وأن تلك الثقة محل مراقبة وتقييم منه شخصيا فقال: ((إن الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن ‏تكون نفوذًا وسلطة, عليكم جميعًا أن تكونوا قدوة ومثلًا يحتذى, سواء في الولاء لوطنه أو ‏المواظبة على عمله واحترام مواعيده أو في سلوكه الوظيفي داخل مكان العمل أو خارجه, وفي ‏حسن الأداء وكفايته)).
ثم يؤكد على أساس الحكم كما عرفته الديانات السماوية والشرائع الربانية والقوانين الوضعية والبشرية – ونقصد به – العدل كأساس للحكم والمعيار لضمير العمل، وأنه حارس الوظيفة من أي خلل أو تجاوز أو إهمال أو تقصير, فقال ((إن العدل أبو الوظيفة وحارسها فتمسكوا به، وعاملوا الجميع بمقتضاه، وإنني ‏لرقيب على أن يفي كل منكم بهذه الأسس والمعاني)).
ثم يختم خطابه ـ حفظه الله ورعاه ـ والذي وجهه لكبار رجال الدولة من وزراء ومسؤولين في الخامس عشر من شهر مايو من العام 1978م بالتأكيد على بعض النقاط الخاصة بإدارة الوظيفة العامة والتي يجب أن يعيها المسؤولون في هذا الوطن، وأن يعملوا على أساسها في التنظيمات والتشريعات الإدارية الموجهة لمصالح المواطنين والمحددة لأساليب وتوجيهات العمل في مؤسساتهم, وعلى رأسها النقاط التالية "نوردها كما هي دون لأنها واضحة", إذ يقول المقام السامي ـ رعاه الله:
(1) نود أن نشير إلى أنه قد يتحبب البعض إلى مسؤوليهم بأعمال خاصة وخدمات خاصة لا ‏تمت إلى الدولة بأية فائدة، هؤلاء ينبغي أن يكافأوا بمكافآت خاصة، وليس على حساب الدولة ‏كترقيات أو تساهلات بأوقات العمل المطلوب منهم.
(2) على المسؤول أن يعتبر مصلحة الدولة فوق ‏كل مصلحة, وأن ينتقي الأصح فالأصح, لا القريب من الأقارب, إذ يجب أن لا تدخل القرابة ‏النسبية في حساب أي مسؤول.
(3) كل الأفراد العمانيين هم إخوة وأبناء، ولا نحب أن نسمع أن ‏هناك توظيفًا أو تقريبًا أو تمييزًا على أسس غير الكفاية واللباقة والإخلاص.
(4) عليكم أن ‏تجعلوا نصب أعينكم دومًا مصلحة عُمان وشعب عُمان, وأن تتذكروا ما قلناه آنفًا بأن هذه الدولة بكل أجهزتها هي لخدمة هذا الوطن العزيز ‏ومواطنيه الأوفياء, وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا ‏على الإثم والعدوان" صدق الله العظيم.‏
هكذا أراد صاحب الجلالة حفظه الله ان يكون هذا الوطن, وطنا للجميع, وأن يكون شكل ومضمون العلاقة بين المسؤولين في مختلف قطاعات الدولة وبين بقية أبناء وطنه ومؤسسات المجتمع المدني, علاقة ثقة وترابط وتعاون أخوي, وأكد في أكثر من محفل وطني أن أمن واستقرار هذا الوطن مربوط بثقة وتلاحم أبنائه بنظامهم السياسي ومن يمثله في مختلف قطاعات الدولة المدنية والأمنية والعسكرية, وخدمة القائمين في تلك القطاعات لأبناء وطنهم بكل إخلاص وأمانة.
وأن المواطن هو صمام الأمن والأمان والاستقرار الوطني الأهم والحافظ لثروات وطنه ومقدرات بلده, وبالتالي هو رأس المال والفائدة والاستثمار الوطني الحقيقي, وخصوصا الشباب منهم والذين يجب أن ينالوا ما يستحقون من خير ونعم هذا الوطن المجيد, فمستقبل عمان بيد أبنائها, ومستقبل عمان وثروتها أمانة في أعناقهم جميعا من مواطنين ومسؤولين.
* حفظ الله عمان وقيادتها وشعبها من كل الفتن والقلاقل ما ظهر منها وما بطن, وبارك أهلها وثرواتها, وجمعهم على حبها والتضحية لأجلها, اللهم آمين...

محمد بن سعيد الفطيسي باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الإستراتيجية [email protected] تويتر - MSHD999@