[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” .. كل ما نعايشه من مستجدات وتطورات وطفرات غير متوقعة إنما هي نتاج حقيقي وإنجاز كبير للأمم التي مضت قدما في الاهتمام بالعنصر البشري فهيأت له أجواء الحرية وطورت من نظمها الديمقراطية وأعلت من شأن الحقوق وركزت على التعليم واهتمت بالمعرفة وبالبحث العلمي وبتطوير تعليمها الجامعي وتخصصاته واعتنت بالمختبرات العلمية ..”
ــــــــــــــــــــــــ
قد نطلق على هذا العصر عصر العولمة أو التكنولوجيا أو الفضاء أو عصر الآلة أوالانفتاح والاتصال أونشوء ما يسمى بالقرية الكونية أو عصر الإعلام أو عصر العلم والمعرفة أو عصر الانفلات بكل ما تعنيه الكلمة من معان واسعة ومتشعبة .. تختلف المسميات باختلاف الهدف والمقصد ويظل المعنى واحدا في تشابكاته وارتباطاته وتظل تلك المفردات بما تحمله من سعة في الوصف والنتيجة والأثر سمة أساسية من سمات هذا العصر لا يمكن لأي امرئ أن يتجاهلها ولا فكاك للإنسان عنها بعد أن ارتبطت بحياته ارتباطا يستحيل انفلاته أو حتى تراخيه, وكل تلك المستجدات والمظاهر والتطورات والمشاهد التي تقترن بهذا العصر وتعتبر ركيزة من ركائزه يصعب فصلها عن بعضها البعض فهي تتمازج فيما بينها امتزاجا دقيقا محكما من حيث التأثير والتأثر, السبب والنتيجة, العلاقة والهدف, التأثيرات تفرز روائح طيبة وأخرى كريهة ولها وجهان حسن وقبيح وفيها مزايا وعيوب, فكل جديد وإن استهدف مصلحة الإنسان وظهر للعيان بهذا المظهر الجميل يظل حاملا للطبيعتين مساوئ ومحاسن (( فمن طبيعة الحياة أن ليس فيها شيء ينفع الناس دون أن يحتوي على ما يضرها في الوقت نفسه )) كما قال المؤرخ والمفكر العراقي علي الوردي, وعندما يستخدم الإنسان عقله ومداركه ويبصر طريق الحياة الصحيح ويوازن بين المصالح والعلاقات فسوف ينجح في تجنيب نفسه وحياته المضار والمفاسد والعيوب ما أمكنه ذلك وسوف يضاعف من المزايا والمحاسن والخيرات , وتأثرها ببعضها البعض من حيث العوامل والأسباب التي تقف خلف ظهورها إلى الوجود كفكرة ومن ثم ككيان وتطورها بعد ذلك وانتشارها ومدى مساهمة الفكرة الأولى في ظهور الثانية استنادا إلى الحاجة والارتباط والدعم والنجاح , فالطفرة الإعلامية وتطور وسائل الاتصال ساهمت مساهمة بالغة في نجاح ثقافة العولمة وانتشار نظرياتها, وساهمت الآلة والتقدم التكنولوجي في غزو الفضاء واكتشاف أسراره والاطلاع على خباياه .. ومن جانب آخر يكشف التسلسل الزمني الرابط بين تلك المترادفات أو مظاهر العصر ماهية العلاقة بينها واستخلاص معانيها الحقيقية ومدى اعتماد الواحدة على الأخرى من حيث النجاح والبقاء والانتشار ويجيب على أسئلة كثيرة حول مساهمة المجتمعات والدول في هذا التحول الكبير الذي غير معالم العالم كلية ودرجة تلك المساهمة وأثرها على الحاضر والمستقبل وعامل التاريخ في ذلك التحول, وحول البدايات والمراحل والنهايات التي سيصل إليها الإنسان في انطلاقاته في مجالات الاكتشاف والاختبار والابتكار والتقدم العلمي والمعرفي بمختلف قطاعاته ومجالاته .. ومع ذلك فكل ما نعايشه من مستجدات وتطورات وطفرات غير متوقعة إنما هي نتاج حقيقي وإنجاز كبير للأمم التي مضت قدما في الاهتمام بالعنصر البشري فهيأت له أجواء الحرية وطورت من نظمها الديمقراطية وأعلت من شأن الحقوق وركزت على التعليم واهتمت بالمعرفة وبالبحث العلمي وبتطوير تعليمها الجامعي وتخصصاته واعتنت بالمختبرات العلمية .. وعندما نقول بأن العصر عصر انفلات فإننا لا نبعد عن الحقيقة كثيرا فقد استطاعت مظاهر هذا العصر وإن كانت تستهدف منفعة الناس بسبب الممارسات أن تفضي في المقابل إلى الكثير من المساوئ والمضار, فهي أولا : أضعفت من مكانة وسلطة الحكومات المركزية على التحكم وفرض الأمن والانضباط وسيادة القانون والحفاظ على المصالح العامة واتباع مضامين السياسة العامة للحكومة, ثانيا: أدت شبكة الاتصال والنقل التي ربطت بين قارات العالم ودولها ومجتمعاتها إلى التداخل والاندماج الاقتصادي والسياسي والأمني والثقافي, ما أدى إلى انتشار عدوى المرض إلى جميع مناطق العالم بمجرد ظهوره في منطقة من مناطقه فلم يعد بمقدور دولة أن تدعي قدرتها على تحصين نفسها من أي وباء أو أزمة أو كارثة من الكوارث, ثالثا: أنها همشت ثقافات وقيما كبيرة شكلت عبر المراحل الزمنية الطويلة قوة دفاع يحفظ للمجتمعات خاصة الضعيفة منها أصالتها وملامحها وأخلاقها وشخصيتها العامة, رابعا: أغرقت العالم في فوضى المفاهيم والقيم والمذاهب والعقائد الدينية والاقتصادية والسياسية والفكرية التي تنطلق من مشارق الأرض ومغاربها وأواسطها تدمر الأخلاق وتثير العصبيات وتخلق الفوضى والاضطرابات وتفضي إلى الانحرافات في الفكر والسلوك والفعل , خامسا : أفضت إلى طغيان ثقافة المادة والشغف بالمال والحرص على الإثراء السريع وهذا بدوره أدى إلى الممارسات غير السوية واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان وإلى إثارة النزاعات والحروب وترويج صناعة السلاح وتطوير الأسلحة الأكثر قدرة على الفتك والقتل وإلى تجارة المخدرات وغيرها من المخاطر التي تشكل تهديدا كبيرا على الإنسان, سادسا : طورت من صناعة الترويج والإعلان وصياغة ونقل الخبر التي أدت بدورها إلى نشوء ثقافة استهلاكية خاطئة وإغراق الناس في الديون وإلى التضليل وبث الخوف والرعب وتضخيم الأخبار. لا شك بأن تلك المضار إنما تسبب بها الإنسان الذي انقاد لأهوائه ونزواته وتجرد عن أخلاقه وإنسانيته فجعل مما يتوسم فيه منفعة الناس وتحقيق السعادة لهم والتخفيف من آلامهم مصدرا للمضار والمفاسد.