[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
إن الخروج من دائرة العيش الاجتماعي، والدخول في العزلة الاجتماعية.. جحيم، وانحسار وجود، لا يتوقف عند حدود القوقعة، بل يتجاوز ذلك إلى الكآبة، وكراهية الوجود. وإن الإغضاء عن أفعال وأقوال وممارسات، شريرة وعدوانية واستفزازية موبوءة، يجعل المتعرضين لها في كَرْب وضيق ورهق بلا حدود، وتبقى نفس الساكت عليها مشحونة بالغضب والألم.

في عالمنا، أمم تتقارب دولُها بوحي من الانتماء العرقي، أو الديني، أو المذهبي.. وأمم أخرى تمزق دولَها، وتعطي ظهرها للانتماء القومي، وتقيم الصراعات الدامية بسبب التعصب للتَّمذهُب، وتتناسى معاناة بعض شُعَبِها، "شعوبها"، بل وتسبب لها المعاناة، وتجرّ عليها الكوارث والمهانة.
وهناك دول تحمي جواسيسها، حتى لو كانوا لا يحملون جنسيتها، وتحمي مواطنيها، وتخرج أولئك وهؤلاء من غياهب السجون، حتى في حالات الإدانة المثبَتة بحكم قضائي مُبرَم.. وهناك دول تأكل وطنيّيها، وتشوههم، وتدفنهم في عفن السجون، أو في رماد النسيان، ولا تسأل عن مواطنيها حين تصيبهم الكوارث، بل قد تتسبب هي لهم بها، وتتخلى عنهم في أشد أوقات حاجتهم إليها، متذرعة بذرائع، ومتلفِّعة بأغطية، تفضح ولا تستر، منها: أن أولئك المواطنين سببوا لأنفسهم مآسيهم، أو أنها "مع حكم العدالة" في أي بلد؟! مسوِّغة لنفسها ولشعبها وللعالم، إهمالها شؤون مواطنيها، وغض الطَّرْف عن كل من يتعرض منهم لعدوان سافر، أو حكم جائر، أو وضعٍ قاهر، أو إهانة تلحق به وبمواطنيَّته، ومن ثم بوطنه على نحو ما.
ونحن هنا لا نتكلم عن الأعمال الجُرمية المدنية التي يرتكبها أشخاص، ويستحقون عليها العقوبة، وفق القوانين النافذة في أي مكان وقعت فيه تلك الأعمال الجٌرمية، وإنّما نتكلم عن أشخاص، وأوضاع، وأحكام، وممارسات.. لها علاقة بالأعمال غير الجُرمية.. ومنها سياسية، ومتعلقة بحرية الرأي والتعبير، وبالمواقف الوطنية التي يختلف الناس في الحكم لها أو عليها.
إنه لشيء مؤلم أن تشعر دولة، أو شُعبة من شَعب، أو شعب من أمة.. بأنه مُستهدَف بعدوان، وليس له أنصار أو إخوان، حتى ممن هم من لحمه ودمه.. والأدهى والأمر، أن يشعر بمرارة التوحد والفَقْد، عندما يكون مسهدَفًا من أعداء تناصرهم بعض أمته، أو أنه مُستَهدَف بعدوان من هم من لحمه ودمه..
فظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المُهَنَّدِ
وإنه لشيء فوق مستوى العقل والألم، أن يشعر إنسان له دولة، ووطن، وشعب، بأنه معزول مخذول، أو مرذول منبوذ، أو مهمَل من دولته وشعبه ووطنه. ويزداد ألم الشخص حين يكون مستَهدَفًا بلا ذنب، ومظلومًا بلا نصير، وبريء ليس بيده أي تدبير. وترتفع درجة الألم إلى ما لا يوصف ولا يُطاق، عندما تكون دولته متواطئة ضده، أو متآمرة عليه، لأسباب تتعلق بمواقف وآراء، مما هو محمي بالقانون، ولا يشكل خطورة أو تآمرًا أو نقضًا للقيم الوطنية والقومية، وإنما هو مما يدخل في باب اختلاف الرؤى والآراء، المعبَّر عنه بسلمية.. وهو في هذه الحالة مما يدخل في باب الاضطهاد، والملاحقة لأسباب سياسية، أو مذهبية، أو عرقية، أو.. ومن ذلك ما يتعلق بإعلان الاختلاف، أو بالامتناع عن التعاون الأمني في حالات، أو بسبب وشايات لا أساس لها من الصحة، أو نتيجةأقوال أو أفعال نُسبت إلى الشخص، في تقارير مخبرين، لا يتمتعون بأدنى درجة من النظافة، والنزاهة، والموضوعية، وحيوية الضمير، وحسن الفهم والتقدير.. ومن ثم قضاء ذلك "المتهم المجني عليه"، لسنوات وسنوات من عمره، في ظلم وظلام.. وفي نهاية الأمر إمَّا أن يموت في العتمة والرطوبة والعُزلة، أو يفقع نتجة الضيم والقل والقهر والتعذيب، وإمَّا أن يخرج مريضًا، معوَّقًا، يائسًا، ينتظر الموت، بعد أن أصبح لا يصلح للحياة.
وفي معظم هذه الحالات، يكون لسان حال الشخص الواقع في هذا الموقع أو الموقف، هو لسان القائل: "وظلم ذوي القربى".
على أن هذا كلُّه في كفَّة، ووضع مناضلين وطنيين قيد الاعتقال، أو في السجن قيد التعذيب، أو في الأسر.. منسيين من شعبهم ووطنهم وأمتهم، ولا يلقى أطفالهم اهتمامًا، بل يبقون منذورين للبؤس واليأس، كأنما فرَضت عليهم وطنية ذويهم، أن يدفعوا ضريبة التضحية في سبيل الوطن، حتى لمواطنيهم؟!
ويدخل في باب من أبواب هذا الأقسى الأمر، والأشد غرابة، أمر فئتين من أبناء شعبنا الفلسطيني، المنتمي عضويًّا لأمته العربية، واقعتان تحت اضطهاد الاحتلال العنصري الصهيوني، وهما:
- أهل قطاع غزة، أولئك المحاصرون المنسيون، منذ عشر سنوات، حصارًا يحمل رائحة الإبادة. ويزيد ألمهمشدة وقسوة، مشاركة بعض المسؤولين عن شعبهم في بعض أوجه عزلهم ونسيانهم في الحصار.. ومشاركة دولة عربية أو أكثر من دول أمتهم، في ذلك الحصار والعزل، فضلًا عن سكوت الدول العربية على ما يصيبهم وما ينتظرهم، ونسيانهم، كأنما لم يوجدوا في أكبر سجن، وأعظم مأساة.
- الأسرى والمعتقلون الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية، وقضاء بعضهم لأكثر من ثلاثين سنة في معتقلات النازية الجدية، وخروج عدد منهم من السجن إلى القبر، بعد قضاء عشرات السنين في الظلام، والرطوبة، والعفن، والغزل.. لأنه مقاتل في سبيل الحرية، وملتزم بتحرير وطنه من الاحتلال العنصري؟! وبين هؤلاد، وعلى هامشهم، يوجد نوع من "المسجونين والمعاقبين"، ونوع من "الأحكام والعقوبات"، ما سمع بمثلها بشر، ولا عملت بها دولة. وليس لها سند من شرع أو تشريع أو قانون متعارف على عدالته بين الأمم والشعوب والدول، وممارسات غريبة - مستغرَبة، بكل والمقاييس والأعراف، ومستهجَنة من كل جوانبها.. وتلك وتلك الحالة الشاذة، قائمة في الكيان الإرهابي الشاذ "إسرائيل"، والموقف الدولي والعربي منها، والتعامل معها أو الرد عليها، أكثر شذوذًا.. تلك المسماة في "كيان الإرهاب والعنصرية، إسرائيل"، بالتوقيف الإداري، أو هي "السجن الإداري"، حيث يسجن فلسطينيون لسنوات وسنوات دون ذنب، ولا تهمة، ولا حكم قضائي.. على التخمين والشبهة والنزرة، ويقضي الواحد منهم عشر سنوات وأكثر من دون تهمة ولا محاكمة ولا حكم؟! وتصمت على وضعهم ذاك: "سلطة، أو دولة، أو أمة"، ينتمون إليها، وهيئات ومنظمات تطلق على نفسها منظمات حقوق الإنسان، سواء أكانت منظمات دولية رسمية، أو إنسانية أهلية. وهذا الوضع الشاذ، أطرافه: - كيان سياسي شاذ، هو كيان الإرهاب الصهيوني، إذ هو السجَّان المنتهِك لكل حق وشرع وشريعة وقانون، ولكل حرية وقيمة وكرامة.
- والسلطة الفلسطينية "دولة فلسطين" التي يحمل السجناء الضحايا، من هذا النوع، جنسيتها.
- والأمة العربية التي تنتمي إليها فلسطين "دولة وشعبًا وقضية"، وتتحمل مسؤولية قومية وسياسية وأخلاقية، عن القضية والشعب. وينتمي الفلسطينيون وغير الفلسطينيين، المسجونون، والأسرى، والمعتقلون بأنواعهم، بمن في ذلك "الاعتقال الإداري" الغريب العجيب، وعددهم بالآلاف، في سجون الصهيونية العنصرية.. ينتمون إلى شعب فلسطيني، ودولة فلسطين، وأمة عربية ذات دول.
- وهيئات ومنظمات ومؤسسات دولية، ترعى قوانين، منها القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، وتملك سلطة وقوة تنفيذ عندما تريد.. وهي تتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية، وإنسانية، حيال ذلك.. لكنها.. لا تفعل شيئًا.
ليس من السهل هضم الكثير من السياسات، والمواقف، والممارسات، وأنواع الادعاء والاستعلاء، الأممية والدولية، الجماعية والفردية.. وتلك التي يدعي أصحابها العِصْمة من الخلل والزلل، ويخوضون في الخل والردل.. ولا احتمال الممارسات الأخرى، المشبعَة بالاستفزاز والعدائية، انطلاقًا من عُقد مستعصية لدى ممارسيها، وغرور وغطرسة يغمسانهما في الشر، واعتقادهم بامتلاك الحقيقة التي لا يملك الآخرون، من غيرهم، شيئًا منها، ولا يعرفون حتى طريق البحث عنها، والسعي وراءها، ومنهجية الوصول إليها، حسب زعم أولئك الزاعمين.
ومما هو أكثر شرًّا وإدهاشًا واستفزازًا من ذلك الذي لا يمكن فهمه ولا هضمه، التشهير بالآخر، واستباحته بصورة كلية أو جزئية، مطلقة أو مقيدة، وإباحة كل الوسائل المؤدية إلى بلوغ ما يريدون، ممن يستهدفونهم بالتشهير والشر. كإنجاز القتل المعنوي، الذي يؤدي إلى إخراج المستَهدَف من الوجود الطبيعي لكينونته فردًا سويًّا، حاضرًا منتجًا في مجتمع حي؟! والمدهش ـالمثير، ادعاء العنصريين، والمتغطرسين الشاذين، والمشَهِّرين بالآخَرين، ومن يمارسون الخداع والادعاء والقتل في الظلام.. ادعاءهم امتلاكهم الحق في ذلك السلوك المتدني خُلقًاوأسلوبًا وقيمة. وهم يفعلون ذلك وكأنهم الحَكَم، ومعيار القيمة، ومَن يقف على رأس النزاهة والعدالة والحكمة والخُلُق، في عالم الخَلق والحق؟!
وتلك ممارسات متنوعة، وكثيرة، ومثيرة، تقوم بها دول، وحكومات، وسلْطات، وأحزاب، وتنظيمات، ويقوم بها أشخاص في مجتمعات، وتمارسها منظمات، وفئات اجتماعية تستغرقها أمراض فتلجأ إلى التعويض، عندما تسنح الفُرَص. وتتم تلك الممارسات بانعدام تام لحس المسؤولية الأخلاقية، والقانونية، وفي غياب للرؤية الاجتماعية البعيدة المرامي.. حيث يبلغ جرح المجروحين، من جهة، وإسفاف المسفّين من جهة أخرى، في كثير من الأحيان، مستويات غاية في الحدة والشدة، ويشيع مناخ سلبي، أقل ما يقال فيه، إنه مناخ ظلم، وقتل في ظلام، وفساد مفسد لكل عدل ومساواة ووئام، ويصبح الدخول فيه، والعيش في ظله، شبيهًا بالغرق في مستنقعات آسنة، لا مخارج منها، ولا نظافة بعدها. وشيئًا فشيئًا يصبح ذلك المناخ المبوء، في مستوياته المختلفة، بحكم العادي، لكنه المُنهِك المُهلِك باستمرار، ومن دون رحمة؟!
إنَّ مَن يُستَهدَف بذلك النوع من الأفعال والممارسات، خاسر إذا لجأ إلى رد فعل من نوع الفعل الذي يستهدِفُه، وخاسر إذا سكت، وخاسر إذا تعالى ومر على تلك الأفعال والأقوال والممارسات، مرور الكرام، رافعًا من شأن نفسه فوق ما يجرح نفسه، ومتعاليًا عن الخوض في المستنقعات الفاسدة التي تُغرقه في أوبئتها، شاء ذلك أم أباه.. لأنها شكلت بيئة، يصبح فيها العدوان عادة، ويتكاثر فيها المعتدون ولادة بعد ولادة.. ويستشري فيها كلٌّ ما يجعل الطغيان، والاضطهاد، والفساد، والسلوك المتدني، والأوبئة الاجتماعية.. أكثر فداحة من الجائحات الوبائية، وتجعل القائمين بالأفعال الإجرامية والمَشينة، أشد وقاحة في التعامل مع الخَلق، وأكثر انتهاكًا للحق.
إنه من غير المقبول وجود ذلك المناخ في أي مكان، وعلى أي مستوى كان، فضلًا عن السكوت عليه، والعيش فيه.. فهو مقبرة للحياة، بكل معنى الكلمة، تموت فيه الهمم والمروءات، والطموحات المشروعة، والتطلعات الإنسانية الخلاقة، والكرامة والحرية.. ويموت فيه الإبداع، ولا تقوم فيه قائمة لفرد، ولا لأسرة، ولا لمجتمع، وشعب، ووطن، ودولة.
لا يجوز السكوت على هذا المناخ، حيث يوجد، وحين يوجد، كما لا يجوز الاستسلام له، فكيف والأمر يصل في بلدان وأماكن ومواقع، حدَّ إعلاء شأنه، وشأن الدود الذي ينغل فيه، وجعله سمة مجتمع، ونوعًا من صحة وميزة وصلاح، أو قاعدة مقبولة، وقانونًا نافذًا، بحكم الأمر الواقع، ويفرض طأطأة الرؤوس للفاسد المفسد، ذي الصوت المرتفع، والسلوك المنحط، وللقوة الغاشمة، والعنصرية الكريهة؟!
ومما يؤسف له، إن هذا في بعض المجتمعات واقع معيش، وظلمة تغلق أبواب الرؤية، وتسد الآفاق أمام الأرواح، والعقول، والأنفس.. لكن كيف السبيل إلى الخروج من هذا المناخ القتال لكل حيوية في الحياة، ولكل حياة بالمعنى الإيجابي للحياة؟! وكيف السبيل لتنفيذ لاءات الرفض تلك، من دون السقوط في المحظورات؟! وكيف نغيّر الواقع العفن من دون أن نقارب ذلك العفن بقوة التغيير، وإرادته، وأدواته؟! كيف نفعل من دون أن ننحدر إلى مستوى غير مقبول، من رد الفعل على الفعل القائم المرفوض، ومن جنسه، وبعكس الاتجاه في الشدة؟! ذلك لأن في الانحدار إلى المستوى ذاته، والدخول في رد فعل على الفعل ومن جنسه ونوعه، تفاقم للحالة المُعْتَرَض عليها، وانتشار للمناخ الموبوء بشكل ما، والدخول في "المرفوض"، وجعله مستمرًّا.. بل تصعيده، وتوسيع دائرته، ومن ثم تحمّل أوزاره، وما ينتج عن ذلك من انتهاكات ومظالم، وفظائع، وجرائم، وسفك دماء، وكوارث، واستباحة أرواح وأرض وشعب وحقوق، وإزراء بقيم وقوانين، وشرائع وعقائد، وبحياة الإنسان ذاته وبقيمه، ذاك المستهدَف بالإنقاذ من المناخ الموبوء؟ إن التعامل مع مستوى متدنٍّ بتدنٍّ في الأداء والإيذاء، يجر إلى السقوط، والسقوط يجر إلى سقوط، والساقط خاسر، وفق معيار قيمة سليم وحكيم.
ولكن، في مثل هذه الظروف والأحوال، العامة والخاصة، كم على المرء أن يتحمّل، وإلى متى؟! وما الذي يجب الالتزام به من قول وفعل، لا سيما حين يصبح المرء في وضع الدفاع عن النفس، وعن مناخ الحياة الصحي النظيف، وعن فضاءات للروح، وأجواء للحياة؟! سؤال دائرته مغلقة، أو تبدو كذلك. فلا الفعل غير اللائق مقبول، ولا السكوت عليه مقبول، ولا التعامل معه بمستواه مقبول، ولا ذاك بمؤدٍّ إلى نتائج أفضل بالضرورة، من جهة.. ولا المنفَلِت من قيد العقل والضمير والواجب الاجتماعي، منضبط بأية درجة من درجات الانضباط القانوني أو الأخلاقي، من جهة أخرى.. ولا يجدي معه سوى ردع، يجر إلى مستنقع يغرق فيه الصالح والطالح، الرادع والمردوع؟!
إن الخروج من دائرة العيش الاجتماعي، والدخول في العزلة الاجتماعية.. جحيم، وانحسار وجود، لا يتوقف عند حدود القوقعة، بل يتجاوز ذلك إلى الكآبة، وكراهية الوجود. وإن الإغضاء عن أفعال وأقوال وممارسات، شريرة وعدوانية واستفزازية موبوءة، يجعل المتعرضين لها في كَرْب وضيق ورهق بلا حدود، وتبقى نفس الساكت عليها مشحونة بالغضب والألم. وليس هذا بالأمر السهل، ولا هو بالمُحتَمل، ولا المقبول. ولا هو من حياة النفس والروح والجسد في شيء، هذا من جهة.. وهو يزيد العدوانيين عدوانية،والمدعين ادعاء، والفاجرين فجورًا، والأشرار شرًّا، والمستفزِّين تماديًا في الاستفزاز والإساءة.
وفي مثل هذه البيئة، أو في مثل هذا المناخ، تصبح الحياة متخمة بكل ما لا يُطاق، من جراء أنواع الممارسات الجارحة تلك، وتعطيل الحكمة وقوة العدالة، وانعدام جدوى الردع النبيل، وبسبب دخول الناس دائرة الفعل ورد الفعل، بمستوياتهما ونتائجهما. وفي هذا الوضع، وفي هوامش العيش الضنك، سيوجد قليل من البشر، الذين يتوقُّون السقوط، وينبذون العنف، ويتوخّون العقلانية والحكمة والمعاملة الإنسانية، ويصبرون، ويكظمون غيظهم.. لكنهم في كل الأحوال ضحايا، وأحياء مع وقف التنفيذ. فما هي الحلول، وكيف السبيل إلى مناخ صحي، ووضع مغاير لوضع المقابر المتجولة، ذاك الوضع الكريه، المفروض بسفاهة وطيش وغطرسة، وبقوة مجنونة عمياء، لا يضبطها ضابط، وتدعو إلى جنون مضاد.. وفي ذاك هلاك الأنفس والأرواح، والزرع والنسل؟!
فلو أن الحالة عابرة، فردية، استثنائية، لهان الأمر، وبان الحل.. فعندما يسير الإنسان في طريق، ويجد على الأرض ما لا يليق النظر إليه، وما ليس نظيفًا، فإنه يتجنَّبه، يحيد عنه، ويتابع طريقه. وإذا لاحقته من ذلك رائحة كريهة، أغلق فتحتي أنفه، وأسرع في مشيه.. ولكن إذا لاحقه المناخ كله، بمثل ذلك كله، وأصبح هناك تلاطم جمع يفرض عليه ما حاد عنه، حتى ليكاد يلقيه في وجهه، فما العمل؟! ليس من قليل، قال بعض أهل الرأي: " الجحيم هم الآخرون، أو هو الآخر"، ولكن ليس من نقص في الروح والنفس والعقل والإرادة والرؤية، قول من قال:
ولو أني حُبِيتُ الخُلدَ فردًا
لما أحببتُ بالخلد انفرادا
فسبحان من خلق من كل شيءٍ زوجين اثنين، وأمر نوحًا بأن يحمل فيها "من كل زوجين اثنين"، وألهم كل نفس فجورها وتقواها، وقال: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿٣٤﴾ - سورة فصلت. سبحان الله الذي خلق موتًا وحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملًا..
ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك.