[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
لكن المتأمل في الأحد عشر مرشحا لا بد أنه لاحظ من بينهم رجلا سياسيا هادئ الطبع رصين التعبير قليل الغضب معتدل الحماس اسمه (جاك شوميناد) وهو المرشح في الرئاسيات للمرة الثالثة دون أن يطمح للفوز لأسباب عديدة منها أنه صوت يغرد خارج السرب، ينادي بتغيير جذري في منظومة الحكم وفي النظام العالمي الأطلسي الجائر، ويضع وطنه فرنسا في فلك أوروبي ودولي جديد.

سيصوت الفرنسيون يومي الأحد على أسبوعين تباعا لاختيار رئيسهم القادم بين أحد عشر مرشحا مختلفين، ويمثل كل واحد منهم تيارا سياسيا وأيديولوجيا له مريدوه أو لديه خزان أصوات يؤهله للفوز في الانتخابات، وهم الذين تمكنوا دستوريا من الترشح باكتساب خمسمئة تزكية من نخبة أسماء منتخبين وهو امتحان عسير. وكما تعلمون، فالتشكيلة الرئاسية تتركب من عشرة رجال وامرأة ينتمون لقوس قزح سياسي متعدد الألوان يتراوح بين يمين معتدل ويسار معتدل ولكن أيضا بين أقصى يمين متطرف وأقصى يسار متطرف، وتلك في الحقيقة مؤشرات ديمقراطية أقرب ما تكون للعدل السياسي وإتاحة الفرصة أمام الناخب لاختيار من يعتقد أنه الأفضل لقيادة سفينة الجمهورية نحو التقدم والرخاء. وللعلم ـ حسب استطلاعات للرأي ـ أن أولوية الفرنسيين في هذه المحطةالحاسمة هي الأمن خاصة وقد عاشت باريس في قلبها النابض (جادة الشانزيليزيه) مساء الخميس الماضي هجمة إرهابية منعزلة هزت المجتمع وأعادت هاجس الأمن إلى قمة الاهتمامات الشعبية. ربما سيكون لهذا العمل الإرهابي البائس والإجرامي تأثير ولو جزئيا على مسار الانتخابات بالزيادة في حظوظ اليمين المتطرف سببه الانفعال السريع بالحدث الإرهابي، والبحث عن مرشح يميني رفع شعارات الأمن فوق كل اعتبار مع ما يتبع هذا الموقف من إدانة للهجرة والمهاجرين والخلط المقصود بين المسلم المسالم والمجرم المهاجم. لكن المتأمل في الأحد عشر مرشحا لا بد أنه لاحظ من بينهم رجلا سياسيا هادئ الطبع رصين التعبير قليل الغضب معتدل الحماس اسمه (جاك شوميناد) وهو المرشح في الرئاسيات للمرة الثالثة دون أن يطمح للفوز لأسباب عديدة منها أنه صوت يغرد خارج السرب، ينادي بتغيير جذري في منظومة الحكم وفي النظام العالمي الأطلسي الجائر، ويضع وطنه فرنسا في فلك أوروبي ودولي جديد. تربطني بالسيد شوميناد علاقة صداقة متينة وصادقة ومستمرة منذ مطلع الثمانينيات حين بدأنا معا مشوارنا السياسي، وكنت أنا أحد المسؤولين من الصف الثاني في الحزب الدستوري الحاكم (عضو اللجنة المركزية للحزب وعضو في البرلمان ورئيس تحرير صحيفة الحزب الناطقة بلسانه مع الزعيم بورقيبة) وكان هو في باريس بصدد تأسيس حزب سياسي يحمل اسم (التضامن الجديد: نوفيل سوليداريتيه). ولفت نظري حين تابعت برنامجه السياسي أن الأمر يتعلق بمشروع حضاري كامل يدعو إلى تثوير عميق للعلاقات الدولية على أساس العدل والتعاون الاقتصادي وإلحاق الشعوب الفقيرة بركب التقدم، وإقناع الغرب أن مصيره مرتبط جدليا بحالة العالم الثالث، ورهين مقاومة الفقر لدى الجميع والحفاظ على صحة الجميع، وضرورة بناء الجسور عوض إقامة الجدران، والتفكير في إعادة تفعيل طريق الحرير على الطريقة الصينية من أجل عالم أفضل لأنه سيكون أعدل ويجنب البشرية مخاطر الحرب والدمار. ثم اكتشفت منذ ذلك التاريخ أن التعتيم الذي يلقاه حزب (شوميناد) من وسائل الإعلام ودهاليز المجتمع السياسي يعود إلى مواقفه الجريئة من قضية الشعب الفلسطيني ودفاعه الشجاع عن حقوقه وإدانته الخالصة للعدوان والتهجير والاستيطان. وجملة هذه المواقف المشرفة دفعتني للتعرف على (جاك شوميناد) وفتح خط مراسلات بيني وبينه ثم دعوته إلى زيارة تونس في نوفمبر 1985 بعد عدوان أكتوبر الذي شنه الطيران الإسرائيلي على قرية حمام الشط ودك مقر منظمة التحرير التي كنا نأويها في تونس بعد مغادرتها لبيروت وإفلات أبو عمار بمعجزة من القتل، وكذلك بعد أن قام العقيد معمر القذافي بطرد ثلاثين ألف مواطن تونسي في أغسطس 85 كانوا يعملون منذ سنوات في ليبيا، ففوجئنا بترحيل قسري لعائلات تونسية آمنة تشارك حياة الليبيين وتعمل في الشقيقة ليبيا. جاء ترحيل ثلاثين ألفا من رجال ونساء وأطفال ومرضى وإلقاؤهم في صحراء رأس جدير بدون خيام وبدون ما حصلوه من مال، فكان لنا صدمة مهولة وحاولنا معاجة الكارثة بإدماج هذا الشعب المهجر في حركة الاقتصاد التونسي الهش، والتقى حينها صديقي (جاك) مع وزير خارجيتنا السيد الباجي قايد السبسي الذي دعانا للغداء. وتواصلت علاقتي الوطيدة معه فدعاني مرات عديدة للمشاركة في مؤتمرات عقدتها حركته في عدة مدن أوروبية وفي واشنطن، حيث عرفت بمواقف تونس وإسماع صوتها المعتدل في محافل دبلوماسية عديدة. ثم جاء صيف 1986 وتم نفينا وملاحقتنا أنا وصديقي محمد مزالي رئيس الحكومة فالتجأت أنا إلى باريس ووجدت الصديق الوفي (جاك شوميناد) في انتظاري منذ المطار إلى أن استقررت في شقته الباريسية معززا مكرما دون أن يتغير الصديق الصدوق، وتقاسمنا شظف العيش لأنه محدود الإمكانيات، وشاركنا معا في نشاطات سياسية وفكرية ندافع عن نفس القيم التي تتجاوز التقليديات السياسوية، وأسسنا لجنة عالمية للدفاع عن مروان البرغوثي ثم لجنة دولية ثانية للدفاع عن المنصف بن سالم في عهد بن علي لا بعد رحيله، وكان معي فيها من تونس منصف المرزوقي وشخصيات أميركية بارزة منها صديقنا المشترك (ليندن لاروش) المستشار في الثمانينيات لدى الرئيس رونالد ريجن وشخصيات أوروبية وخليجية عديدة. الأهم في ترشح الصديق الفاضل (شوميناد) ليس الفوز بل الذي يحركه هو ما يتيحه الدستور والقانون الانتخابي الفرنسي لكل مرشح من مساواة في ساعات التعبير والاتصال بالرأي العام ليبلغ رسالته، وهي رسالة بكل معاني الكلمة. فتحية لجاك شوميناد صاحب رسالة أمانة وصدق من هذا المنبر العربي.