[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
يجب أن يتم التعامل مع قضايا الرأي العام، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غير ذلك، بنوع من الحذر والوعي الرسمي، فلا يبالغ في التعاطي مع بعضها فيعطى أكبر من حجمه، ولا تهمش وتهمل حتى تتفاقم وتتسع مخاطرها. يضاف إلى ذلك ضرورة التعامل معها بمهنية وموضوعية بعيدا عن الشخصنة والانفعال.

بين الحين والآخر نسمع أن قضية ما سواء كانت قضية اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك, قد تحولت إلى قضية رأي عام. فماذا يقصد بقضايا الرأي العام؟ وكيف يجب التعامل معها من الناحية الرسمية؟ وما هي آثار وانعكاسات تجاهل أو تهميش أو ضعف تعامل الجانب الحكومي "السلطة التنفيذية" بأجهزتها ذات الاختصاص المباشر وغير المباشر مع تلك القضايا على الداخل الوطني.
يمكن تعريف قضايا الرأي العام بشكل مبسط بأنها: القضايا التي تجتمع وتسود حولها آراء مجموعة أو طبقة أو شريحة مجتمعية معينة، أو مجموعات مشتركة، أو جراء إجماع شعبي أو جماهيري. ويطلق على هذا النوع من القضايا بقضايا الرأي العام لأنها تنطلق من وعي الجماهير وآراءهم ومعتقداتهم حول قضية ما، وتتشكل عبر ثقافتهم ورؤيتهم الشخصية إلى ذلك الموضوع وتلك القضية، وتتحرك بناء على قناعاتهم وقدرتهم على توجيه أهدافهم وتشكيل غاياتهم الشخصية والوطنية من وراءها.
وتعد قضايا الرأي العام من أخطر القضايا التي يمكن أن تصيب عمق هياكل النظام السياسي والاستقرار والأمن الوطني. لأن هذا النوع من القضايا يدخل في أغلب الأحيان في صلب العلاقة المجتمعية بين المواطنين ومؤسسات وأجهزة الدولة ذات الشأن بالقضية المعنية من جهة، كما أنها ومن جهة أخرى، تكشف قدرة النظام السياسي أو ضعفه في التعامل مع هذا النوع من القضايا من نواحٍ مختلفة، يقع على رأسها مدى الاستعداد والجاهزية السياسية والأمنية وحسن التصرف الإداري، ومرونة النظام في مواجهة واحتواء ارتدادات وانعكاسات ردود الفعل الجماهيرية والشعبية بكل حرفية ومهنية على هذا النوع من القضايا.
ويزيد مخاطر هذا النوع من القضايا في البيئة السياسية الداخلية التي تنتشر فيها عوامل الشك والريبة ومظاهر السخط والامتعاض، وتراجع منسوب الثقة في مؤسسات الدولة والمسؤولين القائمين عليها. ما يفاقم انعكاساتها ومخاطرها على الداخل الوطني نتيجة احتمال دخول عوامل أخرى تساهم في استفحال آثارها السلبية، والترويج لتلك الآثار في البيئة الوطنية، كالإشاعة والإعلام الرسمي غير المحترف في التعامل مع قضايا الرأي العام . كما يمكن أن يرتفع سقف مخاطرها بشكل أكبر في حال تداخل تلك القضايا مع الرأي العام الدولي، والذي في أغلب الأحيان يكون موجها من قبل مؤسسات ومنظمات وأجهزة دولية تحاول بطريقة أو بأخرى التدخل في بعض الدول لأهداف ومصالح سياسية واستخباراتية، أكثر منها أهداف إنسانية وحقوقية، كما يشاع في بداية محاولات التدخل الأجنبي دائما.
وقد ساهم في تعزيز قوة الرأي العام في وقتنا الراهن وتوسع دائرة المشاركة الجماهيرية حول هذا النوع من القضايا كما وكيفا، وكذلك تأثير وتعميق أثر تلك القضايا على الداخل الوطني والخارج الدولي، تطور تكنولوجيا المعلومات والعولمة العابرة للحدود الوطنية، وظهور شبكات التواصل الاجتماعي كتويتر والواتساب واليوتيوب والصحف الإلكترونية على سبيل المثال لا الحصر. وهو ما جعل من بعض قضايا الرأي العام الداخلي تأخذ أبعادا دولية جراء قدرة تلك الوسائل على توسيع دائرة الانتشار الجغرافي والمشاركة الجماهيرية حولها، كما سبق وأشرنا بغض النظر عن حجمها أو بساطتها أو الدائرة الضيقة للفاعلين حولها في بداية الأمر.
ما جعلها تأخذ بعدا دوليا وتطرح في العديد من المحافل العالمية، وهو أمر لا تحبذه العديد من الدول والأنظمة السياسية والأمنية لاعتباره انتهاكا للشؤون الداخلية للوطن، أو متعلقا بسيادة الدولة الوطنية. وهو بحد ذاته يمكن أن يشكل ضغطا داخليا على النظام السياسي، يمكن أن يدفع البعض من تلك الأنظمة إلى التعامل مع قضايا الرأي العام بطرق أمنية شديدة القسوة والعنف والشدة والتسرع والانفعال، ما يمكن أن يفاقم بدوره المشكلة ليحولها في نهاية المطاف إلى أشكال مختلفة من الصدام والصراع الداخلي مع النظام السياسي وأجهزته الأمنية.
إذا يجب أن يتم التعامل مع قضايا الرأي العام، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غير ذلك، بنوع من الحذر والوعي الرسمي، فلا يبالغ في التعاطي مع بعضها فيعطى أكبر من حجمه، ولا تهمش وتهمل حتى تتفاقم وتتسع مخاطرها. يضاف إلى ذلك ضرورة التعامل معها بمهنية وموضوعية بعيدا عن الشخصنة والانفعال. خصوصا أن بعض الجهات الرسمية تعتبر تفاعل الرأي العام حول بعض القضايا المتعلقة بخدماتها ومسؤوليها بصفتهم الوظيفية محاولة للإساءة إليها أو إلى خدماتها، أو موجهة بشكل شخصي للمسؤولين فيها، وفي بعض الأوقات للأسف الشديد تحول إلى قضية أمنية وجنائية ضد الوطن بأسره. ما يترك مع الوقت أو على المدى البعيد انطباع غير مرحب به لدى الجماهير أو المستفيدين من خدماتها جراء سوء أو ضعف أو تهميش ردة الفعل الرسمية حيالها، ما يحول الموضوع أو القضية بعد أن كانت عامة إلى مواقف شخصية أو تحريضية أو صراع بين غالب ومغلوب ومنتصر ومهزوم.
إذًا ما هو المطلوب من مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة للتعامل مع قضايا الرأي العام؟ وما هو المطلوب تحديدا من المؤسسة التي تتعلق بها القضية التي أخذت البعد العام في التعاطي معها جماهيريا؟ مع ضرورة التأكيد على أن هناك ترابطا في كثير من الأوقات بين المؤسسة المعنية بالقضية بشكل مباشر، وبقية أجهزة الدولة. خصوصا الأمنية منها، وذلك باعتبار أن تلك المؤسسة وبقية المؤسسات الدولة كيان سياسي واحد. وما يمكن أن يؤثر على مؤسسة حكومية بعينها، يمكن أن ينعكس سلبا على بقية المؤسسات العامة.
أما من جهة أخرى فدائما ما تكون الأجهزة الأمنية والعسكرية هي الجهات التي يقع على عاتقها لاحقا حمل احتواء تلك التداعيات والانعكاسات السلبية والخطيرة في حال وصل الأمر بالقضية إلى مرحلة المواجهة المباشرة، أو حتى الانعكاسات التي لا شك أنها ستؤثر على البيئة الوطنية أمنيا كانتشار الإشاعات والتحريض ضد مؤسسات الدولة وضعف منسوب الثقة فيها وغير ذلك. ولهذا دائما نؤكد على أهمية البعد الأمني والضغط السياسي على تلك المؤسسات للتعامل السريع والمهني مع قضايا الرأي العام.
لذا يمكن الإشارة إلى بعض الملاحظات والتوجيهات التي يمكن الاستفادة منها كحلول وقائية وعلاجية للتعامل مع هذا النوع من القضايا وتداعياتها على البيئة الوطنية، وهي بكل تأكيد على سبيل المثال وليس الحصر. ومن أبرزها:
أولا: المتابعة السياسية والأمنية المباشرة والمستمرة لتطور بعض القضايا الوطنية التي تحدث بشكل يومي في البيئة الوطنية، مع التأكيد على عدم الاستهتار أو استصغار أو تهميش أي قضية مهما بلغ صغر حجمها، أو الفئة التي تفاعلت معها. والعمل على قياس تفاعلات المواطنين حولها بشكل دقيق ودوري من خلال آراء الشارع، وليس من خلال وضع احتمالات وتخمينات نظرية. والأفضل دائما في هذا السياق وجود مؤسسة وطنية متخصصة بقياس الرأي العام. ومن هنا تبرز أهمية وفعالية قياس الرأي العام والدراسات العلمية الميدانية الوقائية أو الاستشرافية السابقة وصولا إلى استخلاص الحقائق والمعطيات التي يمكن أن تمثل الأساس الذي تقوم عليه الحلول أو القرارات الخاصة بالقضية.
ثانيا: ضرورة العمل المهني السريع من قبل الجهة أو المؤسسة المعنية بالقضية بشكل مباشر، فلا تترك تحت شعارات (قضايا عادية/ قضايا لا خوف منها) لتتدحرج وتكبر ككرة الثلج لتتحول إلى قضية رأي عام. فكم من القضايا التي قيل إنها بسيطة وعادية، كما أشار إليها بعض الجهلة وضعاف الوعي، ولكنها تحولت في نهاية المطاف إلى حركات ثورية واجتماعية أطاحت بالعديد من الأنظمة السياسية في العالم العربي، وحولت الأوطان الآمنة المستقرة إلى بيئات خصبة للإرهاب والفوضى والصراعات الداخلية بين أبناء الوطن الواحد. والأمثلة حولها كثيرة ومختلفة، وكما يقال إن الحريق من مستصغر الشرر.
ثالثا: أهمية التنسيق الأمني والسياسي مع الجهة أو الجهات ذات العلاقة المباشرة بالقضية المطروحة قبل إصدار القرار المعني باحتواء أو حل القضية، وذلك من باب الاستشارة وأخذ آراء مختلف الأطراف، وليس القصد هنا التداخل العشوائي أو الضغط بهدف إسكات الشارع، لأن الأصل في الحل، أن يخرج وينطلق من خلال الدائرة أو الجهة ذات الارتباط، وبمعنى آخر، الحذر من إحداث شق في العلاقة بين المؤسسة المعنية بالقضية من خلال إصدار قرارات من جهات أخرى، لأن ذلك سيؤثر في ثقة المواطنين بالمؤسسة التي تتعلق القضية بها، وسيقلل أو يضعف من دورها وشخصيتها القانونية. ولكن هذا الأمر بالطبع لا يعني السكوت وعدم الضغط أو التدخل الأمني والسياسي المباشر على المؤسسات الرسمية التي تهمل أو تتجاهل التعامل السريع مع هذا النوع من القضايا. بل ويجب معاقبة تلك المؤسسات والمسؤولين القائمين عليها.
رابعا: البعد عن الحلول التي تسعى إلى الاحتواء المؤقت لبعض المواقف والقضايا المتعلقة بالرأي العام، وبمعنى آخر تلك الحلول التي ترتكز على مجرد إرضاء الرأي العام، فهذا النوع من التصرفات والقرارات والسلوكيات يعد خروجا عن الخط الموضوعي السليم لإصدار القرار في مثل هذا النوع من المواقف والقضايا.
خامسا: الحذر من التعامل الأمني المباشر مع هذا النوع من القضايا وتحويلها إلى قضايا جنائية، كما تفعل ذلك العديد من الأجهزة الأمنية تحت شعارات المساس بأمن الوطن والمواطن، أو التحريض على الأمن والاستقرار الوطني، فهي من نوع القضايا التي تؤثر مباشرة في الوعي الجماهيري، وتتشكل حولها انطباعاته وثقته في نظامه السياسي، ومدى قدرت هذا الأخير ومهنيته واحترافه في احتواء تداعياتها وتحقيق الصالح العام حولها.
سادسا: أهمية التصدي السريع منذ البداية وبكل مهنية وحرفية ومؤسساتية لكل ما يمكن أن تحمله قضايا الرأي العام من انحرافات أو انجراف أو شكوك أو ريبة في الوعي أو بسبب انتشار المعلومات المغلوطة حولها، والذي قد يكون في كثير من الأوقات نتاجا طبيعيا لانتشار الشائعات حول القضية، أو بسبب إهمال أو تأخير معالجة المؤسسة المعنية لها.
سابعا: أهمية رفع مستوى الوعي الوطني بطرق التعامل مع قضايا الرأي العام وتداعياتها، سواء من خلال التوعية الشعبية أو المؤسسية. فالوقاية خير من العلاج، والتوعية بمخاطر هذا النوع من القضايا على الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية مهم للغاية للتقليل من آثارها على البيئة الوطنية، والتأكيد على ضرورة بقاء تلك القضايا في إطار الوطن، وعدم الدفع بها إلى الخارج. ومن جهة أخرى يجب الحرص على رفع مستوى الوعي الرسمي للمسؤول بمخاطر هذا النوع من القضايا التي تتعلق بالرأي العام وطرق احتوائها والتعامل السريع والمهني معها.

محمد بن سعيد الفطيسي باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الإستراتيجية [email protected] تويتر - MSHD999@