[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/alibadwan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي بدوان[/author]
”إضراب الأسرى الحالي، يؤكد عمق التجربة الكفاحية والوطنية الفلسطينية في استخدام كل الوسائل المتوافرة لمقاومة الاحتلال، بما في ذلك سلاح الأمعاء والمعدة الخاوية، حيث إرادة وإمكانيات الأسرى في تحمّل المعاناة، وقدرتهم على المفاوضات المُضنية مع عدو معتاد على التسويف والتلكؤ والمكر والخديعة والالتفاف على الحقائق وتزوير الواقع.”

تستمر فعاليات إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام، في سجون ومعتقلات الاحتلال "الإسرائيلي"، وتتزايد كل يوم أعداد المُنضمين منهم إلى الإضراب، وفق خطةِ تصعيدٍ مدروسة تقودها القيادات الميدانية للأسرى من عموم القوى والفصائل الفلسطينية.
غايات الإضراب، غايات وأهداف ومرامٍ وطنية بامتياز، تتمثّل في العمل لكسر قيود الاحتلال، وكسر سياساته تجاه الأسرى، وإجباره على الانصياع للقوانين الدولية المُتعلقة بأسرى الحرب. عدا عن إطلاق الصرخة المدوية في وجه جلاديه، ورفضًا لعمليات الاعتقال الجائرة، وخصوصًا منها الاعتقال الإداري، للنساء والأطفال والفتيان وحتى كبار السن. فالأسرى طلاب حرية، وأسرى حرب وفق حق تقرير المصير للشعوب الواقعة تحت الاحتلال، ومطالب الأسرى إنسانية وأساسية نصت عليها الاتفاقيات والمواثيق الدولية.
الإضراب الحالي للأسرى الفلسطينيين عن الطعام في سجون ومعتقلات الاحتلال، ليس الأول من نوعه، فقد سبقته إضرابات طويلة في مُختلف المُعتقلات والسجون "الإسرائيلية" خلال عقود الاحتلال الماضية منذ العام 1967 وحتى الآن، ونال الأسرى بنتائج تلك الإضرابات بعضًا من حقوقهم كأسرى حرب.
إضراب الأسرى الحالي، يؤكد عمق التجربة الكفاحية والوطنية الفلسطينية في استخدام كل الوسائل المتوافرة لمقاومة الاحتلال، بما في ذلك سلاح الأمعاء والمعدة الخاوية، حيث إرادة وإمكانيات الأسرى في تحمّل المعاناة، وقدرتهم على المفاوضات المُضنية مع عدو معتاد على التسويف والتلكؤ والمكر والخديعة والالتفاف على الحقائق وتزوير الواقع.
الإضرابات المفتوحة عن الطعام في السجون والمعتقلات "الإسرائيلية" تُمثّل هنا ذروة سنام العملية الكفاحية والمقاومة السلمية التحررية للشعب العربي الفلسطيني، وتعكس سلوكه الديمقراطي الحضاري في الكفاح السلمي، وكلّما توسّعت وازدادت شدةً وتيرة التضامن مع أسرى الحرية والكرامة، بقدر ما عجّلت من انصياع ورضوخ سلطات الاحتلال لمطالبهم المحقة والعادلة ومعاملتهم كأسرى حرب وفق القوانين الدولية ذات الصلة، وخففت من معاناتهم. لكن الأمر الأكثر أهمية هنا، أن اضرابات الأسرى تأتي في سياقات من العملية الكفاحية الوطنية التحررية للشعب الفلسطيني، وفي سياقات من تعرية وفضح طبيعة دولة الاحتلال أمام العالم بأسره.
حركة الأسرى في سجون الاحتلال، وإضرابهم عن الطعام، تُشكّل وفي واحدة من نتائجها المعروفة، هزيمة أخلاقية لدولة الاحتلال. هزيمة أخلاقية يُتوقع أن تظهر نتائجها تباعًا وعلى مدايات ليست بالبعيدة على ضوء الواقع الصعب الذي يرزح تحته آلاف الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين.
الهزيمة القيمية الأخلاقية لدولة وكيان الاحتلال، لا تعني هنا، هزيمة فكرة فقط، أو هزيمة موقف فقط، أو حتى هزيمة أفراد من أصحاب القرار في "إسرائيل" فقط، بل تعني هزيمة القيم الأخلاقية وتراجعها في المجتمع "الإسرائيلي" الكولونيالي التوسعي الاستيطاني الإجلائي، والتي اصطفت بتحالفٍ عريض إلى جانب سياسات حكوماته المتعاقبة، وآخرها حكومة اليمين الحالية بقيادة بنيامين نتنياهو التي يأتلف فيها عتاة اليمين واليمين المُتطرف، وهو المجتمع المُتماسك ظاهريًّا والغارق في أزماته عمليًّا، ومنها الأزمات القيمية والأخلاقية، لكن تماسكه أمام الفلسطينيين كان وما زال أمرًا لا بد منه من أجل ضمان استمراره ودرء عملية تفككه.
لقد عَرّت حركة الأسرى، واضرابهم المتواصل عن الطعام، الدولة العبرية الصهيونية، وأظهرت فيها هزيمة الروح الإنسانية التي تفوّق عليها نهج القتل والتدمير واحتلال الآخرين، وكأن برابرة الكون والمعمورة ما زالوا يسرحون ويمرحون في عالم القرن الحادي والعشرين، دون رادعٍ، ودون وازعٍ.
إن هزيمة "إسرائيل" القيمية والأخلاقية، هي هزيمة لمُسلمات كان يعتقد بها البعض في العالم الغربي وغيره، ومنها مقولة إن "إسرائيل" هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، فتمت بعملية إضراب الأسرى تعرية وجهها القبيح، وإظهارها كدولة لا يمكن لها أن تستمر بقوة دفع الحياة وحدها، بل تحتاج لفعل مادي على الأرض يقوم على ممارسة فكرة مواصلة احتلال الآخرين من أصحاب الأرض الأصليين، وشطبهم من الوجود والذاكرة. فانهارت مقولة الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة التي مزقتها الحروب التي شنتها تلك الدولة على الفلسطينيين وعموم العرب، فكانت حكومتها بعيدة عن الديمقراطية في التعاطي مع شعبٍ تحت الاحتلال (مع أن جزءًا هامًّا من هذا الشعب هو مكوّنات تلك الدولة سكانيًا)، وصحافتها بعيدة عن الموضوعية في نقل الصورة ووقائعها، ومجتمعها المدني مُتعدد الأزمات، ومُزدهر بظواهر الانحطاط، وهو المجتمع الذي توحد ويتوحد في حالات الحرب خلف فوهة مدفع جيشٍ احتلال وعصابات المستوطنين المسلحين.
وهنا، قد يحلو للبعض من المتسرعين والمتلهفين، القول: وما جدوى تلك الهزيمة القيمية والأخلاقية، وهل جاءت بالنصر المُبين للفلسطينيين، كإطلاق سراح الأسرى، أو رفع الحصار عن قطاع غزة وإنهاء الاحتلال، وتحقيق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، كما تقول قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة التي قَبِلَ بها الفلسطينيون بالرغم من إجحافها الكبير بحقوقهم التاريخية..؟
وفي الإجابة نقول، نعم، إن تلك الهزيمة القيمية الأخلاقية، تُشكّل حلقة في سلسلة طويلة من محطات الصراع المُعقّد بين الحركة الوطنية التحررية للشعب العربي الفلسطيني وكيان الاحتلال "الإسرائيلي" الصهيوني. فالهزيمة القيمية والأخلاقية هي واحدة من نقاط الإعلام البارزة في ميدان الصراع الفلسطيني مع "إسرائيل" ومشروعها الكولونيالي التوسعي فوق الأرض الفلسطينية وعموم الأرض العربية، وفي ميدان العملية الوطنية التراكمية التي يُنجزها المشروع الوطني الفلسطيني بالرغم من الحالة العربية الرسمية، المتراجعة، والمتهالكة، والتي أوهنت صمود الناس في فلسطين.
ونقول أيضا، وفي مجرى الصراع التراكمي مع الاحتلال التوسعي "الإسرائيلي"، إن السقوط القيمي والأخلاقي للدولة العبرية الصهيونية، يعني بكل تأكيد تنامي الشعور المُتزايد يومًا بعد يوم، لدى قطاعات واسعة من يهود العالم بأن "إسرائيل"، وخاصة يهود الولايات المتحدة وفرنسا، باتت منذ زمنٍ تتحول ولو بحدودٍ معينة، لتصبح عبئًا على اليهود أنفسهم في العالم بأسره. تلك الضربة الكبرى التي يجب يلتقطها وأن يُسددها العرب والفلسطينيون، وأن يراكموا عليها في سياق العمل مُتعدد الأوجه وعلى كل المستويات المُمكنة ضد "إسرائيل" وسياساتها في المنطقة، ومن أجل انتصار الحق الفلسطيني حتى لو طال الزمن.