السياسة تعرقل خطط النمو.. والانقسامات المجتمعية تضرب التنمية النظريات تشير إلى تفاقم وتتابع المشكلات.. والإرث القومي يعظم الحلول

إعداد:أيمن حسين
تواجه غالبية البلدان العربية أزمات اقتصادية، تتعلق - شعبيًّا واجتماعيًّا - بضعف التشغيل، وانتشار البطالة والفقر، وتفشي الأمراض، ومحدودية الدخول الفردية، أما رسميًّا وحكوميًّا، فتتعلق بانخفاض نواتج البلدان العربية نتيجة تغيرات خارجية مثل تراجع أسعار النفط في الدول الخليجية، وسوء توزيع الموارد في بعض البلدان، وهذا ما جعل معظم الدول العربية تنتهج سياسات اقتصادية تقشفية تختلف من دولة لأخرى، لكنها في المجمل ذات تأثير بعيد على الأجيال اللاحقة.
مقدمة:
تبدو المشاكل الاقتصادية التي تمر بها المنطقة العربية ذات مغزى سياسي يستهدف مستقبل الأجيال القادمة، فما يلوح في الأفق من صراعات وحروب أدى إلى تراجع معدلات التنمية والنمو، وصعود تيارات مناهضة أحجبت خطط النمو والاستثمار، مما أدى إلى تفريغ الأجواء في كثير من البلدان من الخطط الاستثمارية والتنموية، وتركيز صناع القرارات في غالبية دول المنطقة على مكافحة التيارات المناوئة بكافة أشكالها.
وفي خضم هذه الصراعات ضاعت مقدرات التنمية، فالانشغال بات أكبر بالسياسة وفرض النفوذ خاصة في العراق وليبيا وسوريا، ومن قبلهم السودان واليمن والصومال، لتتعالى أسئلة في عقول المواطنين العرب في تلك البلدان عن كيفية العيش وسط الصراعات والخصومات السياسية والحزبية.
ولعل أمراض الاقتصادات العربية تزايدت في الآونة الأخيرة من غلاء وبطالة وطوفان مهاجرين لا يجدون سبلًا للعيش الكريم في بلدانهم الأصلية، فظهر كابوس السفر العشوائي والهجرة غير الشرعية بجانب ثالوث الجوع والفقر والتخلف، وسط تراجع نسب التعليم الذي يعد الرافد لفرص العمل الكريمة للمواطنين.
موارد لا تكفي
يقول الاقتصادي الإنجليزي الشهير، جون مينارد كنز، إنه يجب البحث دائمًا عن مستقبل أحفادنا الاقتصادي، فالحالة الاقتصادية التي سيكون عليها أحفادنا رهينة حلول الوفرة محل الندرة، أي حلول عصر يكون من الممكن فيه إشباع الحاجات الإنسانية دون جهد كبير.
ويركز كنز كلامه على الأثر النفسي والفكري الذي سيترتب على النجاح في حل المشكلة الاقتصادية واتجاه اهتمامات الناس إلى مشكلات أكثر نبلًا وأقل أنانيةً، وهذا الاتجاه الفلسفي ليس غريبًا في تاريخ الفكر الاقتصادي، بل يلاحظ أن أعظم الاقتصاديين منذ نشأة علم الاقتصاد كانوا أيضا ذوي اهتمامات فلسفية واضحة، فآدم سميث مثلًا الذي يعتبر مؤسس علم الاقتصاد، كان في الأصل أستاذًا في علم الأخلاق، وكارل ماركس الذي لا يقل أهمية كفيلسوف منه كاقتصادي، وجون ستيوارت ميل جمع كل الأفكار الكلاسيكية في الاقتصاد وكتب أيضًا كتابًا شهيرًا عن مبدأ المنفعة والحرية.
وربما كان كنز بكتابه الشهير (النظرية العامة في العمالة وسعر الفائدة والنقود) هو آخر فريق الاقتصاديين الفلاسفة، ولكن هذا ليس غريبًا بحلول عصر التخصص الضيق في جانب صغير من أحد العلوم محل الميل إلى التعبير عن نظرة عامة للحياة تمس أكثر من فرع من فروع المعرفة.
أزمات متعاقبة:
تبدو خلاصة هذه البحوث والكتب لجهابذة الاقتصاد وفي مقدمتهم كنز هي السعي لإنهاء مشكلة الندرة الاقتصادية انتهاء تامًّا، وتغيير تفكير الناس ونظرتهم للحياة؛ ولكن بعد مرور ما يقرب من تسعين عامًا على ظهور هذه النخبة لا نجد أي علامة مهمة، فالناس - خاصة العرب ـ مازالوا يشكون من مختلف مظاهر الندرة الاقتصادية ليس فقط في البلاد الفقيرة، بل وفي الغنية أيضا، ومازالت نظرتهم للحياة تحكمها إلى حد كبير المشكلة الاقتصادية أكثر من أي مشكلة أخرى.
لم يكن أحد يتوقع ما آلت إليه الاقتصادات العربية حاليا مع استمرار الأزمات طويلًا أو أن تكون هي نهاية النظام الرأسمالي بعكس ما توقع البعض، بل وبات التطور التكنولوجي الذي عرفه الناس يقف عاجزًا أمام مشكلة الندرة؛ أي قلة الموارد الاقتصادية بالمقارنة بالحاجات الإنسانية خاصة مع الزيادة الكبيرة في السكان في بلدان عربية عديدة مع نشوب حروب خطيرة تبدد الموارد، ومن ثم يتوقع الخبراء أن يتجه الإنسان العربي إلى اهتمامات أخرى لسد احتياجاته وسط طوفان الصراعات.
يقول كنز إن مشكلة الندرة ظلت هي التي تحتل مكان الصدارة في اهتمامات الإنسان منذ بدء الخليقة؛ إذ لم يخترع الإنسان وسائل جديدة لزيادة إنتاجيته في الزراعة والصناعة زيادة ملموسة إلا منذ نهاية القرن السادس عشر، فاستمرت وسائل الإنتاج الأساسية تقريبا كما هي طوال تلك القرون السابقة على ذلك القرن، واستمر الإنسان بالتالي حتى في الدول التي تعتبر الآن متقدمة أسير إمكاناته الاقتصادية المحدودة ومهمومًا بمشكلة تخفيف أعباء الإنتاج ومحاولة زيادة أوقات الفراغ.
إشباع الاحتياجات:
يتساءل العامة من العرب في كثير من المجتمعات بالمنطقة عما يمكن أن يحدث في المستقبل عندما تطول أوقات الفراغ، ويصبح بإمكان الفرد التفكير والاهتمام بمشاكل أخرى غير المشكلة الاقتصادية؛ لكن الحقيقة تشير إلى أن سعي الإنسان العربي الدؤوب لتلبية احتياجاته التي يتزايد معها الغلاء والتضخم خاصة بالبلدان كثيفة السكان مما غير في أخلاقيات ونظرات الناس للحياة.
فالنقود سوف تفقد سحرها إذا ما استمر التضخم وتحقيق المزيد منها بزيادة الأرباح، وادخارها لن يصبح هو الشاغل الأعظم للناس في المستقبل، بل البحث عن الأمان والعيش الكريم في ضوء زيادة حدة التوترات والحروب بالوطن العربي.
ولعل فكر المهاجرين وسط هذه الأحداث المتعالية هو البحث عن الثروة في المستقبل حتى أن غالبيتهم يكونون أشبه بالمرضى أو الذين يعانون من خلل عقلي فهم يقذفون أنفسهم في البحار والمحيطات بزوارق متهالكة بعدما يئسوا من واقع مرير في بلدانهم الأصلية، وعلى النقيض يركز الأغنياء من مليونيرات العرب في الغالب على التمتع بالحاضر، وما يقدمه من متع بشكل فج يثير حفيظة الفقراء وكأنهم في عالم آخر.
لقد عانت ولا تزال تعاني البلدان العربي من تفشي كابوس الفساد والرشوة والمحسوبية في ميادين الاقتصاد، مع تراجع القيم الأخلاقية والاهتمام بالوازع الديني حتى أن هناك مجتمعات عربية تناست الأخلاق بين الناس مع اهتمامهم بتحصيل الثروات.
شراهة الاستهلاك:
من المفارقات أن سرعة العصر وما به من تناقضات جعلت المجتمعات العربية في الغالب لا ترى سوى الحياة والعلاقات الاجتماعية المحكومة أساسًا بالاعتبارات الاقتصادية وسط التقدم التكنولوجي الذي لم يتوقف في الغرب ولكن باعتدال في الرؤى؛ أما في الشرق فحمى التقنيات تحولت لكابوس اللهث وراء ترسيخ التكنولوجيا لزيادة الموارد والمداخيل للأفراد وسط تراجع القدرة الإنتاجية الحقيقية للفرد والمجتمع، ولم يسفر هذا عن انحسار أهمية المشكلة الاقتصادية وسيطرتها على تفكير الناس، فهناك مجتمعات عربية صارت شرهة للاستهلاك وسط الإعلانات عن سلع جديدة بشاشات التليفزيون وأوراق الصحف والجدران في الشوارع .
لقد توقع كنز منذ عقود أن يؤدي انحسار مشكلة الندرة إلى أن تنخفض ساعات العمل إلى ثلاث ساعات يوميًّا كي يوزع العمل الذي مازال ضروريًّا على شخصين أو ثلاثة بدلًا من أن يقوم به شخص واحد، فإذا بالذي حدث هو أن انحسار مشكلة الندرة صاحبته زيادة ساعات العمل بدلًا من تخفيضها، فالجميع من مواطني العالم العربي صاروا تقريبًا وفي الغالب يشعرون بضرورة المزيد من العمل من أجل المزيد من الدخل ومن أجل المزيد من الإنفاق الذي مازلنا نعتبره ضروريًّا.
تكنولوجيا سلبية:
قيل إن التقدم التكنولوجي سوف يتيح زيادة ساعات الفراغ، لكن ما حدث أن فضل المواطنون ذوو العائلات والمسؤوليات استخدام أوقات الفراغ في المزيد من العمل للحصول على مزيد من الدخل، فصاحب زيادة وقت الفراغ من الوظيفة العامة بالمؤسسات العربية الغرق في دوامة العمل الإضافي، حتى أن رب الأسرة صار يدور في تروس الحياة بحثًا عن حياة كريمة ولم يعد لديه وقت لمشاركة أحد في تربية الأبناء على القيم والأخلاقيات التي انحدرت وسط أبناء يلهثون وراء الموضة والبحث عن التعارف على شبكات التواصل الاجتماعي، فالفراغ انتقل من الآباء للأبناء ليصير هو الآخر شبحًا يهددهم بالضياع والإدمان والجريمة وسط المشكلة الاقتصادية التي تؤرق العائلات والبيوت العربية، وتجعل سكان البيت الواحد مهمومين بجمع المال للإيفاء بالاحتياجات الأساسية دون حوار بينهم وسط غول التضخم والغلاء الذي لا يرحم بينما الشباب العربي تحت وطأة البطالة والحرمان.
الخلاصة:
الخطط الاقتصادية الجديدة التي طبقتها غالبية البلدان العربية تشير إلى الانحدار نحو النظرات الفلسفية الاقتصادية المصاحبة للأزمات، مع ضرورة أن يلتقي الآباء بالأبناء والأحفاد ليعلموهم من خبراتهم ويغرسوا في قلوبهم وعقولهم أخلاقيات الزمن الجميل وقيم العروبة وحب الأوطان، وذلك وسط هذا الكم الهائل من موضات الغرب وتقاليع شبكة التواصل الاجتماعي والساعات الطوال التي يقضيها الشباب أمام المخترعات الغربية الغريبة من هاتف نقال ووسائل اتصال إلكترونية صارت تفرغ طاقات الشباب فيما لا يفيد، ربما تكون خطوة نحو تأصيل الهوية، وتعزيز ثقافة العمل والإنتاج.