[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” صحيح أن التاريخ العماني يحتوي على بعض الصور والنماذج الاستثنائية تعرضت فيه المرأة للظلم لأسباب متعددة كطغيان الأعراف القبلية، الصراعات الداخلية، شخصية المرأة وطبيعتها واستكانتها، ضعف التعليم ... ولكن الصورة في عموميتها مشرفة ومشرقة بالنسبة لدور المرأة واسهاماتها بشكل عام في المجتمع العماني، ”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت المرأة ولا تزال جزءا أساسيا من الحياة العامة للمجتمع العماني، وشريكا حقيقيا للرجل في الإدارة والنظر في مختلف المسائل والقضايا وإن كانت بشكل غير مباشر في بعضها أو في وقت من الأوقات، وأثبتت جدارتها عالمة وفاضلة وأديبة وسياسية ومعلمة وربة بيت ومربية صالحة وطالبة علم وعاملـة في الحقل الزراعي والحيواني ومشاركة لزوجها في العديد من الأعمال والمهن والحرف، وقد كانت مدارس القرآن تستقبل الأولاد والبنات على السواء وفي وقت واحد ويتلقون التعليم معا على يد ذات المعلم، أو المعلمة، فمنذ الصباح الباكر يتوجه الصبي مع أخته أو ابنة عمه أو ابنة خاله أو جارته وهم جميعا يسيرون في الطريق المؤدي إلى مدرسة القرية أو المنطقة لتلقي التعليم ويخرجون قبل صلاة الظهر بساعة أو أكثر قليلا، وكنت في يوم ما فردا في هذه المجموعة وتعلمنا القرآن على يد معلم، وأحيانا تكلف امرأة بتعليم القرآن إن كانت جديرة بهذه المهمة، ويستمع المعلم إلى تلاوة سور القرآن منهم جميعا بشكل منفرد أو تلاوة جماعية، ويحتفل البيت العماني باختتام البنت لكتاب الله كما هو الحال مع الولد سواء بسواء. وبلغ من تقدير المجتمع للمرأة العمانية وامتلاكها لرأيها أن لها (حق رفض الزواج من رجل زوجها والدها بها دون مشاورتها، كما فرضت بعض النساء صداقها بنفسها ... ورفعت بعض النساء أمرهن إلى القضاء بسبب أخذ وليهن شيئا من المهر فأمر القاضي ولي المرأة بأن يعطيها حقها كاملا , ومنهن من رفعن شكوى على أزواجهن نظرا لتقصيرهم في النفقة والكسوة ...) , يقول وليم جفورد بالجريف الذي زار عمان في عام 1863 م، (فالرجل والمرأة في عمان يُعاملان معاملة قوامها المساواة على نحو يكاد يكون أوروبّياً، ونادراً ما تجد بيتاً يرحب بزائره على نحو أقلّ دفئاً مما يرحّب به أهله . أمّا في شؤون الحياة اليومية، فالنساء يبادرن إليك، ويظهرن أنفسهنّ، ويتجاذبن الحديث، شأنهنّ في ذلك شأن عامة البشر ذوي التفكير المتزن، خلاف نساء نجد والرّياض اللاتي يسود وضعهن الكتمان والصّمت .)، عمان في عيون الرحالة البريطانيين للدكتور هلال الحجري. وفي البيت تتعلم البنت من أمها ومن هن أكبر منها سنا كل ما يؤهلها ويهيئها للتعامل مع الحياة وتكييف نفسها لمستقبل حياتها الجديدة في بيت الزوجية وفي تربية أولادها، وتتلقى التربية الصالحة والتوجيهات المباشرة والأدب الأسري كلما تتطلب الأمر ذلك واحتاجت إليه، وهي وفي سن مبكرة تخوض مع والدها وأخيها وزوجها بعد ذلك غمار المناقشات وإثراء الحوار إن كانوا من بين العلماء أو الأدباء مضيفة ومساهمة بقوة إن كانت في مستواهم العلمي والأدبي أو متعلمة إن كانت أقل من ذلك، (لا شك أن النساء المسلمات في عمان يتمتعن بحرية أكثر من غيرهن في البلاد الشرقية الأخرى، ويبدي لهن في الوقت ذاته احترام أكثر مما يبدي لنظائرهن في تلك البلاد. وغالبا ما يشاركن في الشؤون العامة إذا ما اضطربت أحوال المجتمع، ويظهرن في بعض الأوقات من البطولة أقصى درجاتها)، ومشاركتها في النظر بالآراء السديدة التي يعتد بها حتى من الوجهاء وأصحاب النفوذ ومن لهم مكانـة في قبائلهم أو في مناطقهم أو في مجتمعهم إذا كانوا بحاجة إلى ذلك الرأي، وتشارك أسرتها وزوجها في الزراعة وفي تربية الحيوانات وفي العديد من المهن والحرف، وهي في ذات الوقت ربة منزل مخلصة ومربية صالحة، وعرف عن المرأة العمانية الكفاف والقناعة ووقوفها المساند مع زوجها في أزماته المالية غطاء وتخفيفا وتقديما للرأي ومشاركة له أحيانا إن أراد الهجرة والرحيل أو داعية له بالتوفيق والنجاح أو غافرة له أخطاءه غير شكاية ولا بكاية ولا ذات مطالب تشق عليه، فقد كانت تضع الأواني على النار وهي خاوية إلا من الماء عندما تزورها والدتها أو والدها أو أفراد من أسرتها أو جيرانها تمويها لهم وسترا على زوجها وكأنها بتصرفها ذاك تبعث لهم رسالة بأن البيت فيه من الزاد والخير ما يكفيه. وكانت المرأة تنزل الأسواق وتشارك في هبطات العيد تبيع مواشيها وتعرض منتجاتها الزراعية وصناعاتها الحرفية وتقارع وتجادل الرجال في الأسواق حول الأسعار، وتستقبل الضيوف وتولم لهم في بعض الأحيان وفي عدد من المناطق تحضر المجالس طلبا للإجابة عن سؤال فقهي أو تقديم شكوى محددة ووصلت قوة الشخصية عند بعض النساء أنهن خلعن أزواجهن أو أنهين عقود زواج لم يستشرن فيها من قبل ولي الأمر، وشاركت المرأة بقوة في الحروب وفي الصراعات القبلية بالرأي والقيام ببعض الأعمال الحربية، (والأكثر من ذلك تجد دائما أن هذه الأم الحنونة والعطوفة تقوم بدور الزوج، وتصبح رجل البيت وتعمل جاهدة على تنشئة أولادها ذكورا وإناثا، على العادات والتقاليد والقيم المتوارثة بحيث يشعر الأبناء بأن والدهم حاضر دائما بينهم، ولو كان مسافرا في البحر والبوادي ...)، من شعاب العشق للكاتب السوداني مكي الحاج عربي . وفي كل ذلك كانت المرأة العمانية على درجة عالية من الوعي لخصوصية المجتمع ولثقافته ولقيمه ومبادئه الأصيلة مؤمنة بدينها متمسكة بأصالتها مدركة للمساحة التي ينبغي التحرك فيها، فلم تكن يوما على استعداد مهما كان الثمن في التفريط بتلك الثوابت والأسس التي شكلت سمات المجتمع، وظلت في جميع المراحل التاريخية محافظة على صورتها المشرقة في احتشامها وفي خلقها، شامخة صابرة لا تضعف أمام العواصف والمحن، تعلم في المدرسة، وتجادل الرجال في السوق، وتدخل المجالس لقضاء مصالحها، تقول الشعر، ترفع العصا في وجه أبنائها لتربيتهم، وتناقش في مختلف القضايا التي تهم مجتمعها، وفي هذه المساحة من الحرية الواسعة والمتاحة والتي وثقها رحالة غربيون وسجلتها الوثائق والرسائل القديمة، وكتب عنها المؤرخون وهم يتحدثون عن المرأة العمانية شاعرة وعالمة وفاضلة ومشاركة في شئون المجتمع، ومشهدا ماثلا أمام أبصارنا، لم تسجل عن المرأة سلوكا شاذا أو تصرفا مشينا أو عملا يخرجها من مستوى الوعي الذي أشرنا له، هذا في العموم وأما الاستثناءات فلها حكمها التي لا تسلم منها المدينة الفاضلة حتى. وكانت المرأة العمانية تتفنن في صناعة واقتناء أشكال من الزينة والعطور والبخور ومن المواد والمكونات الطبيعية (الورس) و (الزعفران) و (الصندل) التي تضيف إلى الجمال جمالا وتنعش الجسم وتعطر الملابس والغرف، وكانت تزرع أنواعا مختلفة من الورود والياسمين والكيذا في بيتها أو في الحقل الزراعي (البستان) وتوظف الكثير من النباتات لهذا الغرض، وكانت الفرش والأسرة تستقبل كميات من تلك الورود والياسمين، وكانت تضع زينتها في أوان خزفية جميلة صنعت في الصين (المنقل)، يقول الكاتب يوسف الشاروني، في كتابه (ملامح عمانية) (عرفت المرأة العمانية أدوات التجميل أو الزينة منذ قديم الزمان ولاتزال تستعملها حتى اليوم سواء في جنوب عمان أو شمالها. ففي المنطقة الجنوبية عرفت العمانية الكثير من أنواع الشجر التي تجفف أوراقه وتدقها ثم تستخدم عجينتها لزينتها تماما كالحناء التي تستخدمها المرأة العمانية في شمال البلاد . وكلتاهما تستخدمان مثل هذه الأدوات في زينة الشعر والوجه والقدمين والكفين)، وتقدم المكتبة العمانية للكثير من الأعمال لشاعرات وأديبات وزاهدات وعالمات في مجتمعهن العماني، فقد كانت حُليْسه بنت خميس بن عُليّ بن خميس بن عُليّ الحجرية : امرأة فاضلة قانتة، من نساء بَدّية كانت تؤَم النساء، في صلاة التراويح في شهر رمضان، وكثيراً ما تتردد على مصلى النساء ببلد الواصل عرفت بجلدها وشدتها في انكار المنكر ومحاربة البـدع . وعائشة بنت راشد الريامية البهلوية عاصرت ثلاثة من أئمة اليعاربة أتصفت بالزهد والورع والتقى، تتلمذت على يد كبار المشايخ والعلماء في عصرها وبرزت في مجال الفتوى والفقه، كان لها دور سياسي بارز حيث شاركت في توجيه الحكم في عصر اليعاربة في عمان، إذ رفضت مبايعة سيف بن سلطان عندما خرج على أخيه الإمام بلعرب، وأصرت على أن يلزم بيته أولا، وان يبتعد عن الحكم، ولم يستطع معارضتها ولزم بيته ليومين حتى ارسلت له وناقشته مع جماعة من اعيان البلاد، ثم بايعته على أساس الجهاد والاصلاح، جمعت فتاويها في مجلدين ولها مؤلفات، ولكن للأسف ضاعت تلك المؤلفات، وقد رثاها أهل العلم وشعراء زمانها، ومن بينهم الشيخ الشاعر الكبير سعيد بن محمد الغشري حيث يقول من ضمن قصيدة طويلة :
لقد غيض بحر العلم وانهد طوده وأضحى لواء العلم ملقى الرمائـم
لسيدة من آل قحطان غــودرت ببطن الثرى مثوى العظام الرمائـم
أعزي إمام المسلمين بموتهــا كـذلك كـل المسلميـن الأكـارم
لقد هونت بالعلم كــل مصيبـة مصيبتهـا في الديـن أم المصائب
هي امرأة شماء لكن بفضلها توازن ألفا من رجال ضراغم .
والسيدة ثريا بنت محمد البوسعيدية كانت تهب أموالها لوجه الله تعالى. الأدبية والفقيهة شمساء بنت سعيد الخليلية، اشتهرت بالكرم والسخاء والانفاق على الفقراء . الشيخة راية بنت عبدالله البيمانية، عرفت بنسخ الكتب واهتمامها بالعلم في أيام اليعاربة. الشيخة العالمة عائشة بنت مسعود بن سليمان العامرية نشأت في بيت علم، ووجد من آثارها الفكرية فتاوى فقهية ومراسلات مع بعض علماء عصرها، ونسخت كتاب المهذب في علم الميراث لمؤلفه الشيخ محمد بن عامر المعولي. الشيخة عائشة بنت محمد بن يوسف العبرية وكان أبوها أحد أعلام الدولة اليعربية، وقد اتصفت بالزهد والعبادة والكرم وتبرعت ببناء مسجد (الصاروج) في بلدة الحمراء وأوقفت أموالها لمساعدة المحتاجين من أهل بلدتها. وهي نماذج لسلسلة من النساء الخالدات في التاريخ العماني . وليست هذه الصورة من باب المبالغة فقد عشنا في القرية وكانت المرأة أمام أبصارنا وفي صور ومشاهد رائعة كانت تعمل في الحقل وتتعهد أموالها وأموال زوجها من النخيل والماشية والتجارة، وكانت تشارك في مختلف المناسبات وفي الحياة العامة، وتشارك في الأعراس بصور مختلفة .
صحيح أن التاريخ العماني يحتوي على بعض الصور والنماذج الاستثنائية تعرضت فيه المرأة للظلم لأسباب متعددة كطغيان الأعراف القبلية، الصراعات الداخلية، شخصية المرأة وطبيعتها واستكانتها، ضعف التعليم ... ولكن الصورة في عموميتها مشرفة ومشرقة بالنسبة لدور المرأة واسهاماتها بشكل عام في المجتمع العماني، والنماذج والشهادات التي استعرضها المقال تؤكد هذه الحقيقة .
[email protected]