[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” كل مرشح في فرنسا أو سواها يعول على المال و الإعلام المملوك للمال لينصره و يزكيه ويؤهله للحكم لأن مؤسسة الحكم أصبحت ملحقة بمنظومة استغلال و فساد و تدليس تحميها و تدافع عنها بالقانون والقضاء وأجهزة الأمن والإدارة ! السبب الآخر لتميز هذه المحطة هو أنها أعلنت موت اليمين و اليسار معا وهما التياران الحاضران منذ إعلان الجمهورية.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أقف اليوم مع الملايين غيري ممن عاشوا في فرنسا مندهشا للتغيرات العميقة في الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية في هذه البلاد. وأنا الذي كتب الله لي أن أعايش التحولات الديمقراطية الكبرى منذ انتخاب الجنرال (ديجول) عام 1965 على منافسه الزعيم الاشتراكي التاريخي (فرنسوا ميتران). كنت في ذلك العام في باريس أتسلق كثبان التعليم والتحصيل بجهد جهيد حتى أفوز بشهادة أو أتميز في مجال. كنا شبابا عربا نرتاد نفس الشوارع والمقاهي وعربات المترو والأسواق ونتابع بشغف فعاليات الانتخابات الرئاسية لأننا جميعا قادمون من دول استبدادية يفوز فيها رؤساؤنا بنسب بين 97,5% و 100% ...تاريخنا العربي كان حافلا بالمصائب والمهازل وهو ما جعلنا نلجأ الى ملاحقة أنباء صعود ديجول و ترنح ميتران و نقرأ كلمة للزعيم البريطاني الشهير (ونستن تشرشل) عندما سألوه كيف نعرف الديمقراطية الصحيحة من الديمقراطية المزيفة فأجاب بكل بساطة تكون الديمقراطية حقيقية عندما لا يعرف أحد من الذي سيفوز!! و كنا نهزأ بما يسمى حملات انتخابية تونسية ومصرية وسورية (مع استثناء لبناني مشرف ويتيم) أما اليوم بعد عقود عشناها في هذا البلد الفرنسي الأمين نلاحظ أن مياها طوفانية جرت في نهر السين تحت جسر (ميرابو) وغيرت تلك الثوابت الديمقراطية بما يناقضها والأسباب عديدة منها أن الديمقراطية الفرنسية العتيدة لم تعد كما هي بالأمس لأن فرنسا احتلت موقعا جديدا في لعبة الأمم فأصبحت عضوا في الاتحاد الأوروبي ملتزمة بميثاقه مقيدة بأحكامه وهذه العضوية تحد من استقلالها عن طواعية وتجبرها على ابتلاع أفاعي اقتصادية واجتماعية لا يهضمها شعبها فعضوية الاتحاد الأوروبي هي القضية المفصلية الحاسمة بين المرشحين الاثنين في النهائيات يوم 7 مايو حيث يعتقد (ماكرون) المرشح الوسطي أن بقاء فرنسا كمؤسس وقاطرة للقارة الأوروبية يزيدها قوة ويفتح أمامها أبواب الشغل والتصدير بينما ترى منافسته اليمينية المتطرفة (مارين لوبان) أن الأولوية هي لخروج فرنسا تماما من الاتحاد الأوروبي ومن العملة المشتركة اليورو ومن اتفاق شنجن وعودة الشعب الفرنسي لسيادته ! السبب الثاني للمناخ الجديد هو اتساع فضاءات وسائل الاتصال الاجتماعية مما أطاح بأدوات الإعلام التقليدية و سحبها إلى الصف الثاني في عمليات توجيه الرأي العام. نفس هذه الظاهرة التي جعلت (ترامب) ينتصر على (هيلاري). و السبب الثالث هو مشترك بين فرنسا وكل دول العالم وهو امتزاج السياسة بالمال والأعمال مما يجبر المرشحين في كل البلدان على التنازل عن المبادئ من أجل إرضاء اللوبيات النافذة والمصارف القوية والمافيات الرأسمالية. كل مرشح في فرنسا أو سواها يعول على المال و الإعلام المملوك للمال لينصره و يزكيه ويؤهله للحكم لأن مؤسسة الحكم أصبحت ملحقة بمنظومة استغلال وفساد و تدليس تحميها و تدافع عنها بالقانون والقضاء وأجهزة الأمن والإدارة ! السبب الآخر لتميز هذه المحطة هو أنها أعلنت موت اليمين و اليسار معا وهما التياران الحاضران منذ إعلان الجمهورية.
انتهج (ماكرون) ذو التاسعة والثلاثين ربيعا طريقا مختلفة عن (السيستم) و أعلن عن موت الأيديولوجية فلا من اليمين هو و لا من اليسار بل من وسط معتدل لديه مخزون أصوات لا يستهان به. و يأتي السبب الأهم للتحول التاريخي الأهم هذه المرة وهو حضور الاسلام والمسلمين بقوة و كثافة في كل البرامج الانتخابية و بالطبع فان ذلك أمر طبيعي بالنظر الى تزعم فرنسا لحركات التدخل العسكري في عديد البلدان وبخاصة في بؤر التوتر ثم بالنظر إلى الجرائم الإرهابية التي ضربتها في عقر ديارها وقتلت مواطنين عزلا أبرياء و تبنتها او أيدتها منظمات إرهابية مختلفة ترفع الدين شعارا. و هنا نلاحظ أن (ماكرون) أثناء زيارته للجزائر منذ شهر أعلن بوضوح و شجاعة و أمانة أن الاستعمار الفرنسي ارتكب جرائم حرب و قام بعمليات ابادة للشعوب المسلمة التي احتلتها فرنسا بينما (مارين لوبان) أعلنت دائما أن الاستعمار الفرنسي ماهو الا انقاذ المسلمين من البربرية و التوحش و الحاقهم بركب الحضارة و التمدن في الغرب. كما يلاحظ قرائي الكرام فان هذه الرؤية العنصرية ما تزال تلقى ترويجا في سوق المزايدات السياسية من أجل دغدغة غرائز المواطن الفرنسي البسيط و محدود المعرفة التاريخية الذي يندفع برد فعل عاطفي لانتخاب هذه المرأة زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية ظنا منه أنها ستطرد جميع المقيمين في فرنسا من المسلمين ناسيا أن هذه المشاريع الوهمية هي التي عصفت بأوروبا عام 1938 حين اعتنقها هتلر و النازيون. و هنا لا بد من تحية الجالية المسلمة في فرنسا التي أكدت للرأي العام الفرنسي أنها على خلق و أنها لا ترد الفعل ضد المتطرفين و أنها تستعد لمنح أصواتها (حوالي مليونين) لذلك الشاب الطموح الذي خلا برنامجه من أي عداء بين الحضارات و الأديان و من أي شراء للضمائر.