إعداد ـ علي بن عوض الشيباني:
أيها القراء الأعزاء: خير ما نستقبل به رمضان هو سلامة الصدور وتصفية القلوب وتطهير النفوس، أحد أقارب أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ يدعي مسطح بن أثاثة وكان ممن خاضوا في عرض ابنته في حادثة الإفك، وكان أبو بكر يغدق عليه العطاء ويرسل له النفقة، فلما خاض في عرض عائشة أقسم أبو بكر ألا يصله بخير أبداً، فلما نزل قول الله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) .. بكي أبو بكر وقال: بلي والله إني لأحب أن يغفر الله لي، ورجع إلي ما كان عليه من شأن النفقة لمسطح وقال: والله لا أنزعها منه أبداً .
لا كبر ولا غطرسة
هذه هي النفوس التي رباها الإسلام، فلا كبر ولا غطرسة ولا قسوة، فالكل يبحث عن المغفرة، والكل يريد أن يرضي ربه وينافس في رضاه، ألا يكفي أنه من صفات أهل الجنة أن يبيت الرجل وليس في صدره غلٍّ لمسلم؟!.
ألا نتذكر ما فعله إخوة يوسف ـ عليه السلام ـ معه حينما ألقوه في بئر مظلم بلا طعام ولا شراب وصار على حافة الموت، وهم رجال أشداء كبار وأبوه شيخ كبير فلم يرحموا شيبة الكبير ولا ضعف الصغير، وعندما تمكن يوسف منهم هل بدأ تصفية الحسابات القديمة أم أنه استعلى بإيمانه وقدم العفو علي العقوبة، قال لإخوته:(لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).
وهذه هي أخلاق النبوة وتلك هي شيم الكرام، والعفو من شيم الكرام.
والمشهد نفسه في فتح مكة تكرر مع النبي (صلى الله عليه وسلم) وهؤلاء قومه الذين حاربوه وتآمروا علي قتله وألبوا عليه القبائل وعذبوا أصحابه وعندما هاجرت ابنته زينب نزغ أحدهم ناقتها فوقعت علي صخرة ونزفت دماؤها وما لبث أن ماتت ـ رضي الله عنها ـ من فعلوا هذا بأسرته وأهله وبناته ألا ينتقم لنفسه ولو بقول غليظ وتعنيف شديد؟ لا والله بل قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء .. رحم الله عبداً عفا عند المقدرة، ولا يقدر علي هذا إلا من قهروا نفوسهم فملكوها ولم تملكهم، فالنفس كالدابة إن ركبتها حملتك، وإن ركبتك قتلتك وأهلكتك.
العدل والإحسان
ذكر القرآن درجتان: العدل والإحسان:(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظم لعلكم تذكرون) فالقصاص حق وعدل، أما الأحب والأقرب إلى الله فهو العفو : عن جرير أن رجلا كان مع أبي موسى فغنموا مغنما فأعطاه أبو موسى نصيبه ولم يوفه فأبى أن يأخذه إلا جميعه، فضربه أبو موسى عشرين سوطا وحلق رأسه فجمع شعره وذهب به إلى عمر، فأخرج شعرا من جيبه فضرب به صدر عمر، قال: ما لك؟ فذكر قصته، فكتب عمر إلى أبي موسى: سلام عليك، أما بعد فإن فلان ابن فلان أخبرني بكذا وكذا وإني أقسم عليك إن كنت فعلت ما فعلت في ملأ من الناس جلست له في ملأ من الناس فاقتص منك، وإن كنت فعلت ما فعلت في خلاء فاقعد له في خلاء فليقتص منك، فلما دفع إليه الكتاب قعد للقصاص – ولك أن تتملي هذا المشهد في قائد كبير يجلس أمام جندي من جنوده ليقتص منه! - فقال الرجل: قد عفوت عنه لله .
بهذا العدل قامت السموات والأرض، وبهذا العفو دخل الناس في دين الله أفواجاً، فالحمد لله علي نعمة الإسلام .
روى مسلم والترمذي وأحمد عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزّاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) .
في أي شيء سيتنافس المتنافسون؟ وأي زاد سيحمله الراحلون؟ هذا الدين غير لنا ميادين التنافس فجعلها فيما يدوم ويبقي لا فيما يزول ويفني، الله يحب أن يري تنافس عباده فيما يرضيه، فما هي أحب الأعمال إليه وأثقلها في الميزان عنده يوم القيامة؟ إنها حفظ حقوق العباد والرحمة علي خلق الله، صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك، فالظالم نادم وإن مدحه الناس، والمظلوم سالم وإن ذمه الناس، وكان لجعفر الصادق غلام قد أساء فهم بعقابه فقال له الغلام: يا سيدي أتضرب من ليس له شفيع غيرك؟ فقال: قد عفوت عنك، فقال: والله ما عفوت عني أنت وإنما عفا عني من أجري هذه الكلمة علي لساني ، فعجب لها جعفر وقال: موحد ورب الكعبة لا يري مع الله غير الله ، اذهب فأنت حر لوجه الله .
اللهم اعف عنا وأعتق رقابنا من النار وارزقنا قلوباً سليمة تقية نقية لا إثم فيها ولا بغي ولا غل ولا حسد.

* إمام وخطيب جامع السلطان قابوس الأكبر